أنفسهم بالطعام، ثم نسخ، وكذلك العمل في السبت: كان مباحا قبل شريعة موسى، عليه السلام، ثم نسخ بعدها بشريعته، ودعواهم: النص في التوراة، على ما زعموا، باطلة لأنه ثبت قطعا عندنا بأخبار الله تعالى أنهم حرفوا التوراة، فلم يبق نقلهم حجة، ولهذا قلنا: لم يجز الإيمان بالتوراة التي في أيديهم، حتى بالغ بعض الشافعية وجوزوا الاستنجاء بذلك، بل إنما يجب الإيمان بالتوراة التي أنزلت على موسى، مع أن شرط التواتر لم يوجد في نقل التوراة إذا لم يبق من اليهود عدد التواتر في زمن بختنصر، لأن أهل التواريخ اتفقوا على أنه: لما استولى بخت نصر على بني إسرائيل قتل رجالهم، وسبى ذراريهم، وأحرق أسفار التوراة حتى لم يبق فيهم من يحفظ التوراة. وزعموا أن الله الهم عزيرا، عليه السلام، حتى قرأه من صدره، ولم يكن أحد قرأه حفظا لا قبله ولا بعده، ولهذا قالوا بأنه ابن الله وعبدوه، ثم دفع عزير عند موته إلى تلميذ له ليقرأه على بني إسرائيل، فأخذوا عن ذلك الواحد، وبه لا يثبت التواتر. وزعم بعضهم أنه زاد فيها شيئا وحذف شيئا، فكيف يوثق بما هذا سبيله؟ فثبت أن ما ادعوا من تأييد شريعة موسى، عليه السلام، افتراء عليه، ويقال: إن ما نقلوا عن موسى، عليه السلام، من قوله: تمسكوا بالسبت. الخ مختلق مفترى، ويقال: إن هذا مما اختلقه ابن الراوندي عليه مما يستحق.
الثاني: فيه الدليل على نسخ السنة بالقران، وهو جائز عند الجمهور من الأشاعرة والمعتزلة، وللشافعي فيه قولان: قال في إحدى قوليه: لا يجوز، كما لا يجوز عنده نسخ القرآن بالسنة، قولا واحدا. وقال عياض: أجازه الأكثر عقلا وسمعا، ومنعه بعضهم عقلا، وأجازه بعضهم عقلا، ومنعه سمعا. قال الإمام فخر الدين الرازي: قطع الشافعي وأكثر أصحابنا وأهل الظاهر وأحمد في إحدى روايتيه بامتناع نسخ الكتاب بالسنة المتواترة، وأجازه الجمهور ومالك وأبو حنيفة، رضي الله عنهم، وأستدل المجوزون على المسألة الأولى بأن التوجه نحو بيت المقدس لم يكن ثابتا بالكتاب، وقد نسخ بقوله تعالى: * (وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) * (البقرة: 144 و 150) وأجيب: من جهة الشافعي: بإنما هي نسخ قرآن بقرآن، وأن الأمر كان أولا بتخبير المصلي أن يولي وجهه حيث شاء بقوله تعالى: * (أينما تولوا فثم وجه الله) * (البقرة: 115)، ثم نسخ باستقبال القبلة، وأجاب بعضهم بأن قوله تعالى: * (أقيموا الصلاة) * (البقرة: 43، 83، 110) مجمل، فسر بأمور: منها. التوجه إلى بيت المقدس فيكون كالمأمور به لفظا في الكتاب، فيكون التوجه إلى بيت المقدس بالقران بهذه الطريقة، وباحتمال أن المنسوخ كان قرآنا نسخ لفظه. وقال بعضهم: النسخ كان بالسنة، ونزل القرآن على وفقها، ورد الأول، والثاني: بأنا لو جوزنا ذلك لافضى إلى أن لا يعلم ناسخ من منسوخ بعينه أصلا، فإنهما يطردان في كل ناسخ ومنسوخ، والثالث: مجرد دعوى فلا تقبل، قالوا: قال الله تعالى: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44) وصفه بكونه مبنيا، فلو جاز نسخ السنة بالقرآن لم يكن النبي مبينا، واللازم باطل، فالملزوم مثله. أما الملازمة فلأنه إذا أثبت حكما ثم نسخه الله تعالى بقوله لم يتحقق التبيين منه، لأن المنسوخ مرفوع لا مبين، لأن النسخ رفع لا بيان، وأما بطلان اللازم فلقوله: * (لتبين للناس ما نزل إليهم) * (النحل: 44) حيث وصفه بكونه مبينا. قلنا: لا نسلم الملازمة، لأن المراد بالتبيين البيان، ولا نسلم أن النسخ ليس ببيان، فإنه بيان لانتهاء أمر الحكم الأول، ولئن سلمنا أن النسخ ليس ببيان، وأن المراد منه بيان العام والمجمل والمنسوخ وغيرهما، لكن نسلم أن الآية تدل على امتناع كون القرآن ناسخا للسنة. وقالوا: لو جاز ذلك لزم تنفير الناس عن النبي، صلى الله تعالى عليه وسلم، وعن طاعته، لأنه يوهم أن الله تعالى لم يرض بما سنه الرسول، عليه السلام، واللازم باطل لأنه مناقض للبعثة، فالملزوم كذلك. قلنا: الملازمة ممنوعة لأنه إذا علم أنه مبلغ، فلا تنفير ولا تنفر، لأن الكل من عند الله تعالى.
الثالث: فيه جواز النسخ بخبر الواحد. قال القاضي: وإليه مال القاضي أبو بكر وغيره من المحققين، ووجهه أن العمل بخبر الواحد مقطوع به، كما أن العمل بالقران والسنة المتواترة مقطوع به، وأن الدليل الموجب لثبوته أولا غير الدليل الموجب لنفيه وثبوت غيره. قلت: اختاره الإمام الغزالي والباجي من المالكية، وهو قول أهل الظاهر.
الرابع: قال المازري وغيره: اختلفوا في النسخ إذا ورد متى يتحقق حكمه على المكلف، ويحتج بهذا الحديث لاحد القولين، وهو أنه لا يثبت حكمه حتى يبلغ المكلف، لأنه ذكر أنهم تحولوا إلى القبلة وهم في الصلاة، ولم يعيدوا ما مضى، فهذا يدل على أن الحكم إنما يثبت بعد البلاغ. وقال غيره: فائدة الخلاف في هذه المسألة في أن ما فعل من العبادات بعد النسخ، وقبل البلاغ هل يعاد أم لا؟ ولا خلاف أنه لا يلزم حكمه قبل تبليغ جبريل، عليه السلام. وقال الطحاوي: وفيه دليل على أن من لم يعلم بفرض الله، ولم تبلغه الدعوة، ولا أمكنه استعلام ذلك من غيره، فالفرض غير