عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٢٤٠
وقول الله: * (وما كان الله ليضيع ايمانكم) * والمناسبة بين الترجمتين ظاهرة، لأن في الآية أطلق على الصلاة الإيمان على سبيل إطلاق الكل على الجزء، وبين ذلك بقوله الصلاة من الايمان، لأن كلمة: من، للتبعيض، والمراد: الصلاة من بعض الإيمان. الثاني: قال الواحدي في كتاب (أسباب النزول): قال ابن عباس، رضي الله عنهما، في رواية الكلبي: (كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ماتوا على القبلة الأولى، منهم: سعد بن زرارة، وأبو امامة أحد بني النجار، والبراء بن معرور أحد بني سلمة، فجاءت عشائرهم في أناس منهم آخرين، فقالوا: يا رسول الله توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى، وقد صرفك الله تعالى إلى قبلة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، فكيف بإخواننا في ذلك؟ فأنزل الله تعالى: * (وما كان الله ليضيع ايمانكم) * (البقرة: 143) الآية. الثالث: قال ابن بطال: هذه الآية حجة قاطعة على الجهمية والمرجئة، حيث قالوا: إن الأعمال والفرائض لا تسمى إيمانا، وهو خلاف النص، لأن الله سبحانه وتعالى سمى صلاتهم إلى بيت المقدس إيمانا، ولا خلاف بين أهل التفسير أن هذه الآية نزلت في صلاتهم إلى بيت المقدس. قلت: لا يلزم من الاتفاق على نزولها في صلاتهم إلى بيت المقدس إطلاقها، وقال ابن إسحاق وغيره، في قوله تعالى: * (وما كان الله ليضيع إيمانكم) * (البقرة: 143) بالقبلة الأولى، وتصديقكم نبيكم وإتباعكم إياه إلى القبلة الأخرى، أي: ليعطينكم أجرها جميعا. وقال الزمخشري في (الكشاف): * (وما كان الله ليضيع ايمانكم) * (البقرة: 143) اي: ثباتكم على الإيمان، وأنكم لم تزلوا ولم ترتابوا، بل شكر صنيعكم وأعد لكم الثواب العظيم، ويجوز أن يراد: وما كان الله ليترك تحويلكم، لعلمه أن تركه مفسدة وإضاعة لإيمانكم، وقيل: من صلى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة. انتهى. قلت: هذا ثلاثة أوجه. الأول: من قبيل إطلاق المعروض على العارض. الثاني: من قبيل الكناية، لان التحويل ملزوم لإضاعة الإيمان. الثالث: من قبيل إطلاق الكل على الجزء، ثم: اللام، في قوله * (ليضيع) * (البقرة: 143) لتأكيد النفي، فإن قيل: المقام يقتضي أن يقال: إيمانهم، بلفظ الغيبة، أجيب: بأن المقصود تعميم الحكم للأمة: الاحياء والأموات، فذكر الأحياء المخاطبين تغليبا لهم على غيرهم، ولا يناسب وضع الآية في الترجمة إلا من الوجه الثالث، وهو الذي أشار إليه البخاري بقوله: يعني صلاتكم، حيث فسر الإيمان بالصلاة، وهكذا وقع هذا التفسير في رواية الطيالسي والنسائي من طريق شريك وغيره عن أبي إسحاق عن البراء في الحديث الذي أخرجه البخاري ههنا، فانزل الله تعالى * (وما كان الله ليضيع ايمانكم) * (البقرة: 143) اي: صلاتكم إلى بيت المقدس. الرابع: قوله (عند البيت) أراد به الكعبة، شرفها الله تعالى. وقال النووي: هذا مشكل، لأن المراد: صلاتكم إلى البيت المقدس، وكان ينبغي أن يقول: اي صلاتكم إلى بيت المقدس، وهذا هو مراده، فيتأول عليه كلامه. وقال بعض الشارحين المراد: إلى البيت يعني: بيت المقدس، أو الكعبة، لأن صلاتهم إليها إلى جهة بيت المقدس. قلت: إذا أطلق البيت يراد به الكعبة، ولم يقل أحد: إن البيت إذا اطلق يراد به القدس، أو أحدهما بالشك، وقال بعضهم: قد قيل: إن فيه تصحيفا. والصواب: يعني صلاتكم لغير البيت، ثم قال: وعندي أنه لا تصحيف فيه، بل هو صواب.
بيان ذلك أن العلماء اختلفوا في الجهة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوجه إليها للصلاة وهو بمكة، فقال ابن عباس، رضي الله عنهما، وغيره: كان يصلي إلى بيت المقدس، لكنه لا يستدبر الكعبة، بل يجعلها بينه وبين بيت المقدس، وأطلق آخرون أنه كان يصلي إلى بيت المقدس، وقال آخرون كان يصلي إلى الكعبة فلما تحول إلى المدينة استقبل بيت المقدس وهذا ضعيف، ويلزم منه دعوى النسخ مرتين، والأول أصح لأنه يجمع بين القولين، وقد صححه الحاكم وغيره من حديث ابن عباس، فكأنه، البخاري، أراد الإشارة إلى الجزم بالأصح من أن الصلاة لما كانت عند البيت كانت إلى بيت المقدس، واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية، لأن صلاتهم إلى غير جهة البين وهم عند البيت إذا كانت لا تضيع فأحرى ألا تضيع إذا بعدوا عنه قلت هذه اللفظة ثابتة في الأصول صحيحة ومعناها صحيح غير أنه اختصر في العبارة والتقدير يعني صلاتكم التي صليتموها إلى بيت المقدس عند البيت أي الكعبة فقوله عند البيت يتعلق بذلك المحذوف وقول هذا القائل واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية ثم تطويله بقوله: لأن صلاتهم إلى آخره... كلام يحتاج إلى دعامة، لأن دعواه أولا بقوله: واقتصر على ذلك اكتفاء بالأولوية. ثم تعليله بقوله: لأن صلاتهم... إلى آخره، لا تعلق له قط، لبيان تصحيح قول البخاري: عند البيت، وتصحيحه بما ذكرناه، ونقله عن بعضهم أن فيه تصحيفا، ثم قوله: وعندي أنه لا تصحيف فيه، وإن كان كذلك في نفس الأمر، لكن لو كان
(٢٤٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 235 236 237 238 239 240 241 242 243 244 245 ... » »»