عمدة القاري - العيني - ج ١ - الصفحة ٢٣٥
وليلة خمس مرات، وهذا أيضا عين اليسر. الثالث: قوله: (يسر)، أي: ذو يسر، وذلك لأن الالتئام بين الموضوع والمحمول شرط، وفي مثل هذا لا يكون إلا بالتأويل، أو الدين يسر أي: عينه على سبيل المبالغة، فكأنه لشدة اليسر وكثرته نفس اليسر، كما يقال: أبو حنيفة فقه، لكثرة فقهه، كأنه صار عين الفقه، ومنه: رجل عدل. واليسر، بضم السين وسكونها: نقيض العسر، ومعناه: التخفيف، ثم كون هذا الدين يسرا يجوز أن يكون بالنسبة إلى ذاته، ويجوز أن يكون بالنسبة إلى سائر الأديان، وهو الظاهر، لأن الله تعالى رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم، كعدم جواز الصلاة في المسجد، وعدم الطهارة بالتراب، وقطع الثوب الذي يصيبه النجاسة، وقبول التوبة بقتل أنفسهم ونحو ذلك. فإن الله تعالى من لطفه وكرمه رفع هذا عن هذه الأمة رحمة لهم، قال الله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * (الحج: 78) فإن قلت: ما الألف واللام في الدين؟ قلت: للعهد، وهو دين الإسلام. وقال ابن بطال: المراد أن اسم الدين واقع على الأعمال لقوله: (الدين يسر)، ثم بين جهة اليسر في الحديث بقوله: (سددوا)، وكلها أعمال، واليسر: اللين والانقياد، فالدين الذي يوصف باليسر والشدة إنما هي الأعمال.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة ف (قول) مجرور لأنه معطوف على الذي أضيف إليه الباب، فالمضاف إليه مجرور، والمعطوف عليه كذلك، والتقدير: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما استعمل هذا في الترجمة لوجهين. أحدهما: لكونها متقاصرة عن شرطه، أخرجه ههنا معلقا ولم يسنده في هذا الكتاب، وإنما أخرجه موصولا في كتاب الأدب المفرد. والآخر: لدلالة معناه على معنى الترجمة، وأخرجه أحمد بن حنبل وغيره موصولا من طريق محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس، رضي الله عنهما وإسناده حسن، وأخرجه الطبراني من حديث عثمان بن أبي عاتكة عن علي بن يزيد عن القاسم عن أبي أمامة بنحوه، ومن حديث عفير بن معدان عن سليم بن عامر عنه، وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده، وطرق هذا عن سبعة من الصحابة، رضي الله عنهم. قوله: (أحب الدين)، كلام إضافي مبتدأ بمعنى: المحبوبة، لا بمعنى: المحب، وخبره قوله (الحنيفية) والمراد: الملة الحنيفية، فإن قيل: التطابق بين المبتدأ والخبر شرط، والمبتدأ ههنا مذكر والخبر مؤنث؟ قلت: كأن الحنيفية غلب عليها الإسمية حتى صارت علما، أو أن أفعل التفضيل المضاف لقصد الزيادة على من أضيف إليه يجوز فيه الإفراد والمطابقة لمن هو له. فإن قلت:
فيلزم أن تكون الملة دينا، وأن تكون سائر الأديان أيضا محبوبا إلى الله تعالى، وهما باطلان، إذ المفهوم من الملة غير المفهوم من الدين، وسائر الأديان منسوخة. قلت: قال الكرماني: اللازم الأول قد يلتزم، وأما الثاني فموقوف على تفسير المحبة، أو المراد بالدين الطاعة، أي: أحب الطاعات هي السمحة. قلت: لا يخلو الألف واللام في الدين أن يكون للجنس أو للعهد، فإن كان للجنس فالمعنى: أحب الأديان إلى الله الحنيفية، والمراد بالأديان الشرائع الماضية قبل أن تبدل وتنسخ، وإن كان للعهد فالمعنى: أحب الدين المعهود، وهو دين الإسلام، ولكن التقدير: أحب خصال الدين، وخصال الدين كلها محبوبة، ولكن ما كان منها سمحا سهلا فهو أحب إلى الله تعالى، ويدل عليه ما رواه أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث أعرابي لم يسمع، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خير دينكم أيسره) والمراد بالملة الحنيفية: الملة الإبراهيمية، عليه الصلاة والسلام، مقتبسا من قوله تعالى: * (ملة إبراهيم حنيفا) * (البقرة: 135، آل عمران: 95، النساء: 125، الأنعام: 161، النحل: 123) والحنيف عند العرب من كان على ملة إبراهيم، عليه الصلاة والسلام، ثم سموا من اختتن وحج البيت: حنيفا، والحنيف: المائل عن الباطل إلى الحق، وسمي إبراهيم، عليه الصلاة والسلام: حنيفا لأنه مال عن عبادة الأوثان. قوله: (السمحة) بالرفع صفة: الحنيفية، ومعناها: السهلة، والمسامحة هي: المساهلة، والملة السمحة: التي لا حرج فيها ولا تضييق فيها على الناس، وهي ملة الإسلام.
39 حدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي عن معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة.
.
(٢٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 230 231 232 233 234 235 236 237 238 239 240 ... » »»