أبو إسحاق فذكره، ورواه أحمد بن حنبل في كتاب الإيمان من طريق سفيان الثوري، ورواه يعقوب بن شيبة في مسنده من طريق شعبة وزهير بن معاوية وغيرهما، كلهم عن أبي إسحاق السبيعي، عن صلة بن زفر، عن عمار، رضي الله عنه؛ ولفظ شعبة: (ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان). وهكذا روي في جامع معمر عن أبي إسحاق، وكذا حدث به عبد الرزاق في (مصنفه) عن معمر، وحدث به عبد الرزاق بآخره فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا أخرجه البزار في مسنده، وابن أبي حاتم في (العلل) كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي، وكذا رواه البغوي في (شرح السنة) من طريق أحمد بن كعب الواسطي، وكذا أخرجه ابن الأعرابي في معجمه عن محمد بن الصباح الصغاني، ثلاثتهم عن عبد الرزاق مرفوعا. وقال البزار: غريب، وقال أبو زرعة: هو خطأ، فقد روي مرفوعا من وجه آخر عن عمار، أخرجه الطبراني في (الكبير) ولكن في إسناده ضعف، والله أعلم.
الثالث في إعرابه ومعناه. فقوله: (ثلاث) مرفوع بالابتداء، وهو في الحقيقة صفة لموصوف محذوف تقديره: خصال ثلاث، فقامت الصفة مقام الموصوف المرفوع بالابتداء ويجوز أن يقال: يجوز وقوع النكرة مبتدأ إذا كان الكلام بها في معنى المدح، نحو: طاعة خير من معصية، وقد عدوه من جملة المواضع التي يقع فيها المبتدأ نكرة. وقوله: (من) مبتدأ ثان، وهي موصوفة متضمنة لمعنى الشرط، وجمعهن صلتها. وقوله: (فقد جمع الإيمان) خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول. والفاء، في: (فقد)، لتضمن المبتدأ معنى الشرط، و: (الإيمان)، منصوب: بجمع، ومعناه: فقد حاز كمال الإيمان، تدل عليه رواية شعبة (فقد استكمل الإيمان). قوله: (الإنصاف)، خبر مبتدأ محذوف. والتقدير: إحدى ثلاث الانصاف، يقال: أنصفه من نفسه، وانتصفت أنا منه، وقال الصغاني: الإنصاف العدل، والنصف والنصفة الاسم منه، يقال: جاء منصفا أي: مسرعا. قوله: (وبذل السلام) أي: الثاني من الثلاث بذل السلام، بالذال المعجمة. وفي (العباب): بذلت الشيء أبذله وأبذله، وهذه عن ابن عباد، أي: أعطيته وجدت به، ثم قال في آخر الباب: والتركيب يدل على ترك صيانة الشيء. قوله: (للعالم) بفتح اللام، وأراد به كل الناس من عرفت ومن لم تعرف. فإن قلت: العالم اسم لما سوى الله تعالى فيدخل فيه الكفار، ولا يجوز بذل السلام لهم! قلت: ذاك خرج بدليل آخر، وهو قوله: عليه السلام: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى)... إلخ كما تقدم. قوله: (والإنفاق)، أي: الثالث: الإنفاق من الإقتار، بكسر الهمزة، وهو الافتقار. يقال: اقتر الرجل إذا افتقر. فإن قلت: على هذا التفسير يكون المعنى الإنفاق من العدم، وهو لا يصح! قلت: كلمة: من، ههنا يجوز أن تكون بمعنى: في، كما في قوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة) * (الجمعة: 9) أي: فيه، والمعنى: والانفاق في حالة الفقر، وهو من غاية الكرم، ويجوز أن يكون بمعنى: عند، كما في قوله تعالى: * (لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا) * (آل عمران: 10 و 116، والمجادلة: 17) أي: عند الله، والمعنى: والانفاق عند الفقر ويجوز أن يكون بمعنى الغاية، كما في قولك: أخذته من زيد، فيكون الافتقار غاية لإنفاقه، وفي الحقيقة هي للابتداء، لأن المنفق في الإقتار يبتدئ منه إلى الغاية. وقال أبو الزناد بن سراج: جمع عمار في هذه الألفاظ الخير كله. لأنك إذا أنصفت من نفسك فقد بلغت الغاية بينك وبين خالقك وبينك وبين الناس ولم تضيع شيئا، أي: مما لله وللناس عليك، وأما بذل السلام للعالم فهو كقوله عليه السلام: (وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)، وهذا حض على مكارم الأخلاق، واستئلاف النفوس. وأما الإنفاق من الإقتار فهو الغاية في الكرم، فقد مدح الله، عز وجل، من هذه صفته بقوله: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) * (الحشر: 9) وهذا عام في نفقة الرجل على عياله وأضيافه، وكل نفقة في طاعة الله تعالى. وفيه: أن نفقة المعسر على عياله أعظم أجرا من نفقة الموسر. قلت: هذه الكلمات جامعة لخصال الإيمان كلها لأنها إما مالية أو بدنية، فالإنفاق إشارة إلى المالية المتضمنة للوثوق بالله تعالى، والزيادة في الدنيا وقصر الأمل، ونحو ذلك. والبدنية إما مع الله تعالى، أي: التعظيم لأمر الله تعالى وهو الإنصاف، أو مع الناس وهو الشفقة على خلق الله تعالى، وهو بذل السلام الذي يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب ونحو ذلك.
28 حدثنا قتيبة قال حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله ابن عمر و أن رجلا سأل الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
(راجع الحديث رقم 12).
مطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، لأن الباب يتضمن أحد شطريه.