فصدعت الدنيا عما التذ بنواظر فكرها من سوء الغفلة، ومن عجب كيف يسكن إليها من يعرفها، وقد استذهلت عقله بسكونها، وتزين المعاذير وخسأت أبصارهم عن عيب التدبير، وكلما تراءت الآيات ونشرها من طي الدهر، عن القرون الخالية الماضية، وحالهم ومآلهم، وكيف كانوا وما الدنيا وغرور الأيام.
وهل هي إلا لوعة من ورائها * جوى قاتل أو حتف نفس يسوقها (1) وقد أغرق في ذم الدنيا الادلاء على طرق النجاة من كل عالم، فبكت العيون شجن القلوب فيها دما، ثم درست تلك المعالم فتنكرت الآثار، وجعلت في برهة من محن الدنيا وتفرقت ورثة الحكمة، وبقيت فردا كقرن الأعضب (2) وحيدا أقول فلا أجد سميعا، وأتوجع فلا أجد مشتكى.
وإن أبكهم أجرض وكيف تجلدي * وفي القلب مني لوعة لا أطيقها (3) وحتى متى أتذكر حلاوة مذاق الدنيا، وعذوبة مشارب أيامها، وأقتفي آثار المريدين، وأتنسم أرواح الماضين (4) مع سبقهم إلى الغل والفساد، وتخلفي عنهم في فضالة طرق الدنيا منقطعا من الأخلاء، فزادني جليل الخطب لفقدهم جوى وخانني الصبر حتى كأنني أول ممتحن، أتذكر معارف الدنيا وفراق الأحبة.
فلو رجعت تلك الليالي كعهدها * رأت أهلها في صورة لا تروقها فمن أخص بمعاتبتي؟ ومن أرشد بندبتي، ومن أبكى، ومن أدع أشجو بهلكة الأموات، أم بسوء خلف الاحياء، وكل يبعث حزني ويستأثر بعبراتي ومن يسعدني فأبكي وقد سلبت القلوب لبها، ورق الدمع، وحق للداء أن يذوب على طول مجانبة الأطباء، وكيف بهم وقد خالفوا الامرين، وسبقهم زمان الهادين، ووكلوا إلى أنفسهم يتنسكون في الضلالات في دياجير الظلمات.