وفي قوله: " قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون " أي ما يقولون إنك شاعر أو مجنون وأشباه ذلك " فإنهم لا يكذبونك " قرأ نافع والكسائي والأعشى عن أبي بكر: " لا يكذبونك " بالتخفيف، وهو قراءة علي عليه السلام والمروي عن الصادق عليه السلام، والباقون بفتح الكاف والتشديد. وفيه وجوه:
أحدها: لا يكذبونك بقلوبهم اعتقادا، وإن كانوا يظهرون بأفواههم التكذيب عنادا، وهو قول الأكثر، ويشهد له ما رواه سلام بن مسكين عن أبي يزيد المدني أن رسول الله صلى الله عليه وآله لقى أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك فقال: والله إني لاعلم أنه صادق، ولكنا متى كنا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال السدي:
التقى أخنس بن شريق وأبو جهل بن هشام فقال له: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد - صلى الله عليه وآله - أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هنا أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا، فقال أبو جهل:
ويحك والله إن محمدا لصادق وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟. (1) وثانيها: أن المعنى: لا يكذبونك بحجة، ولا يتمكنون من إبطال ما جئت به ببرهان ويدل عليه ما روي عن علي عليه السلام أنه كان يقرء " لا يكذبونك " ويقول: إن المراد بها أنهم لا يأتون بحق هو أحق من حقك.
وثالثها: أن المراد: لا يصادفونك كاذبا كما تقول العرب: قاتلناكم فما أجبناكم أي ما أصبناكم جبناء، ولا يختص هذا الوجه بالقراءة بالتخفيف، لان أفعلت وفعلت يجوزان في هذا الموضع، وأفعلت هو الأصل فيه.
ورابعها: أن المراد: لا ينسبونك إلى الكذب فيما أتيت به، لأنك كنت عندهم أمينا صدوقا، وإنما يدفعون ما أتيت به ويقصدون التكذيب بآيات الله، وروي أن أبا جهل قال للنبي صلى الله عليه وآله: لا نتهمك ولا نكذبك، ولكننا نتهم الذي جئت به و نكذبه.