تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٣ - الصفحة ١٠٩
طحن جعجع وجمع بين ما يعلم بالضرورة أنه كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه وما يعلم بالضرورة أنه خطأ في تأويل كلام الله تعالى ومعرفة مراده سبحانه، ولا يروج ما ذكره إلا على مفرط في الجهل أو مقلد لأهل الباطل من المنجمين * (وإن أردت الإيضاح وأحببت الاتضاح) * فاسمع لما نقول: ما ذكره من الاستدلالات أو هي من بيوت العناكب وأشبه شيء بنار الحباحب؛ فأما الاستدلال بقوله تعالى: * (فلا أقسم بالخنس * الجواري الكنس) * (التكوير: 15، 16) ففيه أنا لا نسلم أن هناك قسما بالنجوم فقد روي عن ابن مسعود أن المراد بالخنس بقر الوحش وهي رواية عن ابن عباس واختاره ابن جبير، وحكى الماوردي أنها الملائكة، وإذا سلم ذلك بناء على أنه الذي ذهب إليه الجمهور فأي دلالة فيه على التأثير وقد أقسم سبحانه بالليل والنهار والضحى ومكة والوالد وما ولد والفجر وليال عشر والشفع والوتر والسماء والأرض واليوم الموعود وشاهد ومشهود والمرسلات والعاصفات والناشرات والفارقات والنازعات والناشطات والسابحات والسابقات والتين والزيتون وطور سينين إلى غير ذلك فلو كان الإفسام بشيء دليلا على تأثيره لزم أن يكون جميع ما أقسم به تعالى مؤثرا وهم لا يقولون به وإن لم يكن دليلا فالاستدلال به باطل، ومثله في ذلك الاستدلال بقوله تعالى: * (فلا أقسم بمواقع النجوم) * (الواقعة: 75) وقد فسر غير واحد مواقع النجوم بمنازل القرآن ونجومه التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مدة ثلاث وعشرين سنة، وكذا الاستدلال بقوله سبحانه وتعالى: * (والسماء والطارق) * (الطارق: 1).
وأما قوله تعالى: * (فالمدبرات أمرا) * (النازعات: 5) فلم يقل أحد من الصحابة والتابعين وعلماء التفسير أنه إقسام بالنجوم فهذا ابن عباس. وعطاء. وعبد الرحمن بن سابط. وابن قتيبة. وغيرهم قالوا: إن المراد بالمدبرات أمرا الملائكة حتى قال ابن عطية: لا أحفظ خلافا في ذلك، وكذلك * (المقسمات أمرا) * (الذاريات: 4) فتفسيرهما بالنجوم تفسير المنجمين ومن سلك سبيلهم وهو تفسير بالرأي والعياذ بالله تعالى، وأما وصفه تعالى بعض الأيام بالنحوسة كما في الآية التي ذكرها فليس ذلك لتأثير الكواكب ونحوستها بحسب ما يزعم المنجم بل لأن الله تعالى عذب أعداءه فيها فهي أيام مشائيم على الأعداء فوصف تلك الأيام بنحسات كوصف يوم القيامة بأنه عسير على الكافرين.
وكذا يقال في قوله تعالى: * (في يوم نحس مستمر) * (القمر: 19) وليس * (مستمر) * فيه صفة * (يوم) * بل هو صفة * (نحس) * أي نحس دائم لا يقلع عنهم كما تقلع مصائب الدنيا عن أهلها، والقول بأنه صفة * (يوم) * وأن المراد به يوم أربعاء آخر الشهر وأنه نحس أبدا غلط ولا يكاد المنجم يزعم نحوسة يوم أربعاء آخر الشهر ولو شهر صفر أبدا بل كثيرا ما يحكم بغاية سعده حسبما تقتضيه الأوضاع الفلكية فيه بزعمه.
وأما استدلاله بالآيات الدالة على أنه سبحانه وضع حركات هذه الأجرام على وجه ينتفع بها في مصالح هذا العالم فمن الطرائف إذ الأليق لو صح زعم المنجم أن يذكر في الآية ما تقتضيه النجوم من السعد والنحس وتعطيه من السعادة والشقاوة وتهبه من الأعمار والأرزاق والعلوم والمعارف وسائر ما في العالم من الخير والشر فإن العبرة بذلك أعظم من العبرة بمجرد الضياء والنور ومعرفة عدد السنين والحساب، وأما ما ذكره عن إبراهيم عليه السلام من أنه تمسك بعلم النجوم حين قال: * (إني سقيم) * فسقيم جيدا وقد سمعت ما قيل في الآية، ولا ينبغي أن يظن بإمام الحنفاء وشيخ الأنبياء وخليل رب الأرض والسماء أنه كان يتعاطى علم النجوم ويأخذ منه أحكام الحوادث ولو فتح هذا الباب على الأنبياء عليهم السلام لاحتمل أن يكون جميع أخبارهم عن المستقبلات من
(١٠٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 104 105 106 107 108 109 110 111 112 113 114 ... » »»