لم يقم داود مع شاول باستمرار، إذ يبدو أن حالة الملك تحسنت. وقد أتيحت الفرصة لداود مرارا كثيرة أن يعود ليشرف على غنم أبيه (1 صم 17: 15).
وبينما كان يقوم بزيارة قريته ويشرف على الغنم إذ نشبت الحرب بين العبرانيين والفلسطينيين فغزا الفلسطينيون يهوذا وأقاموا معسكرهم على مسافة تقرب من خمسة عشر ميلا غرب بيت لحم. فقاد شاول الجيش لملاقاتهم. وكان إخوة داود الثلاثة الكبار مع الجيش. ثم بعد قضائهم مدة تقرب من ستة أسابيع بعيدين عن أهلهم وذويهم أرسل يسى داود لكي يسأل عن سلامتهم. وفي ذلك حين كان جليات قد تقدم متحديا أي إنسان في جيش العبرانيين لكي يبرز لمبارزته فأثار هذا التحدي روح داود.
وقد شعر يقينا بأن الرب سيزيل على يديه العار الذي لحق بقومه. فسأل عمن يكون هذا الفلسطيني الذي يعير صفوف الله الحي. وقد بلغت كلماته إلى شاول الذي إذ رأى قوة الروح الدافع بالفتى أن يتقدم عهد إليه بأمر مبارزة جليات. فخلع داود لباس الحرب الذي كان قد ألبسه إياه شاول بحجة أنه لم يجربه. وقد أظهر في تلك الآونة عبقرية عظمى فإن حركة جليات البطيئة بسبب ثقل السلاح الذي كان يلبسه إعاقته كثيرا، وكذلك كان نوع السلاح الذي يلبسه يحتم عليه أن يكون قتاله عن قرب من عدوه فلا يستطيع أن يتمكن منه ما دام بعيدا عنه. أما داود فجاء إليه خفيف الحركة لا يعوقه ثقل سلاح أو ما أشبه ذلك. أتى ومعه مقلاع كان قد أتقن استخدامه وانتقى خمسة أحجار ملس يمكن قذفها عن بعد.
جاء ويتملكه إحساس رائع بعدل القضية التي يدافع عنها ويحارب لأجلها، ويسود على قلبه وكل مشاعره شعور سماوي بالثقة بالله.
ثم بدأ المتحاربان بتبادل عبارات التعبير كما كان مألوفا لدى المتبارزين في القديم. ثم قذف داود بمقلاعه حجرا سقط جليات على أثره فتقدم داود وقضى عليه بسلاحه. وبعد الانتصار ذهب داود مع شاول إما إلى جبعة بنيامين - المركز الذي كان شاول يقيم فيه ويحكم منه، أو إنهما ذهبا إلى نوب حيث كانت خيمة الاجتماع منصوبة. ثم عرض داود رأس جليات في أورشليم ويبدو أنه فعل ذلك تحديا لليبوسيين الذين كانوا لا يزالون يملكون الحصن في ذلك الحين.
ثم وضع سلاح جليات في خيمته (1 صم 17: 54) ووضع السيف في خيمة الاجتماع (1 صم 21: 9).
ثم إن داود لما ذهب لمجابهة جليات انذهل شاول من بطولة روحه وسأل أبنير عن الفتى وابن من يكون.
ولما عاد داود منتصرا وجه إليه شاول السؤال نفسه فرد عليه داود ببساطة قائلا: " ابن عبدك يسى البيت لحمي " (1 صم 17: 55 - 18 - 1) ولم يكن أسلاف داود قد عرفوا بالبطولة الحربية. ويبدو أن شاول في سؤاله أراد أن يعرف مركز أسرة المنتصر الذي وعد أن يعطيه ابنته زوجة، ولكي يعفي أسرة أبيه من الضرائب التي كانت مفروضة عليهم (1 صم 17: 25 و 18: 18) فاكتشف أنه لا يوجد في أسرة داود ما يمكن أن يخجل منه إذا ما أصر صهره.
وقد كان انتصار داود على جليات مرحلة ذات أهمية عظمى في حياته. فقد أظهر من البطولة والشجاعة والتواضع والتقوى ما جعله محببا إلى نفس يوناثان فتعلقت نفسه بداود وأحبه كنفسه (1 صم 18: 1) ولم يسمح له من بعد ذلك أن يعود إلى بيت أبيه بل بقي في بلاط شاول على الدوام (1 صم 18: 2).
ولكن الاكرام الذي ناله داود لانتصاره على جليات أثار غيرة شاول الذي أصبح عدوا لداود منذ ذلك الحين (1 صم 18: 6 - 9) وقد رأى شاول أن تنبؤ صموئيل بانتقال الملك منه إلى من هو خير منه (1 صم 15: 17 - 29) قد قرب من تمامه في