الكتاب وظن أنه وجد ثمرة الغراب فيجاب بأن مراد المصنف من رجوع فقه أبي حنيفة وغيره إلى أمير المؤمنين (ع) أن التلميذ فيما أخذ عن أستاذه في علم وقوى عليه أساس تحصيله فيه يرجع إليه لا أنه فيما أحدثه من عند نفسه أيضا راجع إليه فلا يلزم أن يكون الرحض والتشريعات التي أحدثها أبو حنيفة وبنى فيها على القياس والاستحسان المردودين راجعا إلى علي (ع) حتى لا يتوجه عليه الاعتراض كما توهمه الناصب وهذا كما أن تلامذة أبي حنيفة مع بقاء اسم التلميذ عليهم إلى آخر العمر ورجوع فقههم إليه بلا نزاع قد خالفوا أبا حنيفة في كثير من المسائل ولا يلزم من عدم توجه الاعتراض على فتوى أبي حنيفة عدم توجهه على فتاويهم ولهذا قد نقل الدميري الشافعي في كتاب حياة الحيوان أن مولانا الصادق (ع) اعترض على أبي حنيفة في قياسه واستحسانه وسنذكره في بحث القياس من مسايل أصول الفقه إن شاء الله تعالى وأما ما ذكره الناصب من الترديد فمردود بأن المراد أن أصول تلك العلوم وكلياتها ومهماتها وحقايقها قد استفيد من كلام أمير المؤمنين (ع) وخطبه فإنها تتضمن من ذلك ما لا زيادة عليه ولا غاية ورأه ومن تأمل المأثور في ذلك من كلامه (ع) علم أن جميع ما أسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه إنما هو تفصيل لتلك الجملة وشرح لتلك الأصول وروى عن الأئمة من أولاده (ع) من ذلك ما لا يحاط كثرة ومن أحب الوقوف عليه وطلبه من مظانه أصاب منه الكثير العزيز الذي شفاء للصدور السقيمة ونتاج للعقول العقيمة وفي كتاب إحياء العلوم للغزالي أن أول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق علي (ع) وقد ناظره الملحدة في مناقضات القرآن وأجاب مسألة الجاثليق حتى أسلم انتهى وقد أورد السيد المرتضى (رض) جملة من ذلك في كتاب الغرر والدرر ثم قال وهذا باب أن أولجنا فيه اغترفنا من ثبج بحر زاخر أو شؤ بوب غمام ماطر وكل قول في هذا الباب لقايل إذا أضيف إليه أو قويس به كان كإضافة القطرة إلى الغمرة والحصات إلى الحرة وإنما أشرنا إليه إشارة وأومأنا إليه إيماء انتهى وبهذا يحصل غرض المصنف من إثبات تلمذ الجمهور (ع) له بواسطة ووسايط وأما ما عدا تلك الكليات من المسايل الباطلة كرؤية الله تعالى وإثبات الصفات الزايدة والقول بالجبر والكسب في أفعال العباد والأصول الفاسدة من القياس والاستحسان ونحوهما فلا يقدح استفادتها من غيره (ع) في كونه مرجع الأصول الصحيحة والمسائل الحقة الصريحة وأيضا المعتزلة الذين هم من قدماء المتكلمين في علم الكلام قد اعترفوا بذلك كما يرشد إليه كلام ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة حيث قال في جملة كلامه وما أقول في رجل يعزى إليه كل فضيلة وينتهي إليه كل فرقة ويحاذيه كل طائفة فهو رئيس الفضايل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها ومجلي حليتها كل من برع فمنه أخذ وله اقتفى وعلى مثاله احتذى انتهى فإنكار هذا الناصب الشقي لا يقدح في المقصود كما لا يخفى ولعله أراد بباقي الصحابة في الشق الثاني من ترديده المردود أبا بكر وعمر وعثمان وقد علم في تضاعيف هذا الكتاب وفي غيره من فصول الكتاب الخطاب مبلغ جهلهم ودنو كعبهم عن فقه الأحكام وفهم كلام الملك العلام فكان ينبغي أن يستحي عن الإشارة إليهم في هذا المقام وإذا كان علي (ع) أعلم الأمة فهو أولى وأرضى بالإمامة من غيره لقبح تقديم المفضول على الفاضل وهل يحسن من ذي بصيرة وقادة والمعية نقادة وفراسة منيرة وفطنة مصيبة ولب ثاقب ورأي ثايب أن يقدم على من صدر عنه علوم ظاهرة وأعلام باهرة وآيات ناطقة ومعجزات ظاهرة قد وقعت الإشارة إلى نبذ يسير منها من لا يعلم معنى الأب والكلالة من القرآن ويسئل عن الله أين هو فيقول في السماء على العرش ولم يعلم أنه تعالى لا يجوز عليه ما يجوز على الأجسام وأنه متعال عن أن يكون له مكان أو إمكان أو يليق أن يفضل عليه من اعترف في سبعين موضعا رده (ع) عن خطائه بأنه لولا علي لهلك عمر وكما قال ابن عبادة شعر هل مثل فتواك إذ قالوا مجاهرة لولا علي هلكنا في فتاوينا وكان يتعوذ من معضلة ليس لها أبو حسن (ع) وأقر بأن كل الناس أفقه منه حتى المخدرات في الحجال وأفحمه في أيام خلافته صعصعة بن صوحان في عنفوان شبابه وقصر فهمه عن إدراك سؤال المرأة المشتكية عن زوجها مع إعادتها لذلك ثلث مرات بعبارة واضحة في مقصودها إلى أن ينهيه كعب بن سور بذلك فانفعل وأحال سؤالها عليه ثم استحسن ما أجاب به كعب عن سؤالها بالباطل وولاه قضاء البصرة ليستر عليه سوء فهمه و جهله ألا يرى أن تقديم قليل العلم على مثل الشافعي وأبي حنيفة قبيح جدا وكذا لو استوزر الملك رجلا لا بصيرة له بعلم السياسة وتدبير الأحوال لقبح العقلاء عليه فعله وقد قال الله تعالى هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب وقال أبو علي بن سينا في كتاب الشفاء في فن الخطابة ينبغي أن يكون المشير بصيرا بمقدار حاجة كل إلى كل وبأحوال أهل الفضايل وأهل الثروة منهم فيشير بما ينتظم به شمل المصلحة فهذا الحكيم كما يرى كلامه يوجب من طريق العقول الصحيحة والحكمة القديمة أن لا يقدم المشورة إلا العالم بجامع الأمور الحاوية لفنون المصالح وما نطق به القرآن وشهد بصحته صريح العقل وأوجبه الحكماء فلا سبيل إلى بطلانه ومما ينبغي أن ينبه عليه في هذا المقام أن الفضل المستفاد من صيغة أفعل التفضيل كما علم ونحوه في أصل اللغة بمعنى الزيادة يقال فضل الشئ على الشئ أي زاد عليه ويقال رجل ذو فضل أي ذو كمال في العلم أو غيره ويجئ أيضا لمان أخر قال الله تعالى وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة أي زادهم في الآخر وقال الله تعالى الرجال قوامون على النساء بما فضل الله به بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم أراد به العقل والرأي وقيل أنه مطلق أراد به جميع ما فضل به الرجال على النساء من الزيادة في الميراث والشهادة إلى غير ذلك فعلى هذا القول الفاضل هو الزايد وأفضل هو الأعلم في الزيادة ولفظة أفضل التي على وزن أفعل يستعمل على قسمين أحدهما لتفضيل شئ وقعت فيه الشركة وزاد الفاضل بمزية تخصصه وتلك المزية إما في نفس ما اشتركا فيه كمن يكون شجاعا وغيره أشجع منه أو زيادة بمزية أخرى لم يحصل له أنقص كمن زيد على الشجاعة بالسماحة والقسم
(٢٠١)