والمسكنة، عرف ربه بالعزة والكبرياء، والعظمة. وقوله: أنا الطين، إشارة إلى أن العارف، لم يزل في مقام الفقر والإقرار بالحدوث والعجز. وقوله: من أنا؟ لما أقر الجسد بالمعرفة، والحدوث والإمكان، والموت، والرجوع إلى عنصره ومعدنه، وتلاشيه وتحلله بعد تركيبه.
وقوله: أنت أبو تراب، يشير به إلى معنيين: خاص، وعام. فالأول معناه أن المراد من الأب المربي والمرشد، والروح قيم هذا الجسد ومربيه، والثاني أن أبا تراب هو الماء، والمراد به: أنت أبو الأشياء ومبدأها وحقيقتها ومعناها، لأن الكلمة الكبرى عنها برزت الموجودات، وهي سر سائر الكائنات.
وقوله: فقلت له: أنا أنت. يعني أنا مثلك ميت ومركب. فقال: حاشاك، حاشاك، أنا أنا، وأنا أنا، يعني ابن التراب والنور.
وقوله: أنا ذات الذوات، والذات في الذوات للذات، صرح بإظهار السر المكنون، والكلمة المتعلقة بطرفي (كن فيكون)، وذلك أنه اسم الله الأعظم وحقيقة كل كائن وأنه ذات كل موجود لذات واجب الوجود لأنه سره وكلمته وأمره ووليه على كل شئ، وذلك أمر خصه الله به، لأنه هو هو، بل إنه كلمة الله وآيته وسره.
فبان بحل هذا المبهم كفر الغالي والقالي، وسلوك التالي والموالي، ووصول العارف العالي، فعلي سر الله في الكل ووليه على الكل، لأن الرب سبحانه سلم ما أوجده بإرادته، وخلقه بقدرته ومشيئته، إلى وليه وكلمته، فقد سلم ما صدر منه إليه لأن المولى الولي، مقامه في الخلق مقام الرب العلي، وإليه الإشارة بقوله: (لا فرق بينهم وبينك إلا أنهم عبادك وخلقك) (1).
وقوله في الدعاء: (جئت بك إليك) (2) يعني جئت بصفاتك إلى ذاتك، وبعدلك إلى عفوك.
وقوله له: فقال: عرفت، فقلت نعم، فقال: فامسك. هذا إشارة إلى أن الإنسان إذا عرف أن عليا هو السر الخفي، وجب عليه الامساك لقبول (3) العقول عن هذا الإدراك.