ولذلك تجد كثيرا من علمائنا المحققين في المعرفة بالأسرار يثبتون لأئمة الهدى صلوات الله عليهم كل هاتيك الشؤون وغيرها مما لا يتحمله غيرهم، وكان في علماء قم من يرمي بالغلو كل من روى شيئا من تلكم الأسرار حتى قال قائلهم: إن أول مراتب الغلو نفي السهو عن النبي صلى الله عليه وآله. إلى أن جاء بعدهم المحققون وعرفوا الحقيقة فلم يقيموا لكثير من تلكم التضعيفات وزنا، وهذه بلية مني بها كثيرون من أهل الحقائق والعرفان ومنهم المترجم، ولم تزل الفئتان على طرفي نقيض، وقد تقوم الحرب بينهما على أشدها، والصلح خير.
وفذلكة المقام أن النفوس تتفاوت حسب جبلاتها واستعداداتها في تلقي الحقائق الراهنة، فمنها ما تبهظه المعضلات والأسرار، ومنها ما ينبسط لها فيبسط إليها ذراعا ويمد لها باعا، وبطبع الحال أن الفئة الأولى لا يسعها الرضوخ لما لا يعلمون، كما أن الآخرين لا تبيح لهم المعرفة أن يذروا ما حققوه في مدحرة البطلان، فهنالك تثور المنافرة، وتحتدم الضغائن، ونحن نقدر للفريقين مسعاهم لما نعلم من نواياهم الحسنة وسلوكهم جدد السبيل في طلب الحق ونقول:
على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقا ألا إن الناس لمعادن كمعادن الذهب والفضة (1) وقد تواتر عن أئمة أهل البيت عليهم السلام: أن أمرنا أو حديثنا - صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان (2).
إذن فلا نتحرى وقيعة في علماء الدين ولا نمس كرامة العارفين، ولا ننقم من أحد عدم بلوغه إلى مرتبة من هو أرقى منه، إذ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها. وقال مولانا أمير المؤمنين عليه السلام: لو جلست أحدثكم ما سمعت من فم أبي القاسم صلى الله عليه وآله لخرجتم من عندي وأنتم تقولون: إن عليا من أكذب الكاذبين (3).
وقال إمامنا السيد السجاد عليه السلام: لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله، ولقد آخى رسول الله صلى الله عليه وآله بينهما فما ظنكم بسائر الخلق (4) (وكلا وعد الله الحسنى) و (فضل الله المجاهدين على