كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد (قسم الإلهيات) (تحقيق السبحاني) - العلامة الحلي - الصفحة ٢٠
الوجه الأول: أنه تعالى فعل الأفعال المحكمة، وكل من كان كذلك فهو عالم.
أما المقدمة الأولى فحسية، لأن العالم إما فلكي أو عنصري، وآثار الحكمة والإتقان فيهما ظاهرة مشاهدة.
وأما الثانية فضرورية، لأن الضرورة قاضية بأن غير العالم يستحيل منه وقوع الفعل المحكم المتقن مرة بعد أخرى.
الوجه الثانية: أنه تعالى مجرد وكل مجرد عالم بذاته (1) وبغيره.

(1) إن هنا لونين من البحث:
أحدهما: كل عاقل مجرد، وكل مجرد عاقل، وقد أطرحه المحقق الطوسي في آخر " المسألة الثانية والعشرون " من مباحث العلم وتبعه شراح المتن، وأقاموا البرهان على القاعدتين المعروفتين (1) وقد ذكر أيضا بعض ما يرتبط بهما في الفصل الرابع، المسألة الخامسة في تجرد النفس (2) ولكن بيان الشارح في المقام الأول في الكتاب غير خال عن التعقيد والصعوبة.
ثانيهما: ما ذكره الشارح في المقام استلهاما من قول المصنف في المتن حيث قال: " والتجرد "، وفسره في المقام بالصورة التالية: إنه سبحانه مجرد وكل مجرد عالم بذاته - 1 - لاحظ كشف المراد: 246 طبعة النشر الإسلامي.
2 - لاحظ المصدر نفسه: 184 طبعة النشر الإسلامي.
وبغيره. ولأجل أن لا تخرج التعليقة عن حدها، نشرح ما ذكره الشارح في المقام ونرجئ البحث عن اللون الأول وما ذكره في تجرد النفس إلى آونة أخرى لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، فنقول:
هنا: دعويان:
الأولى: أنه سبحانه مجرد، وكل مجرد عالم بذاته.
الثانية: أنه سبحانه مجرد، وكل مجرد عالم بغيره.
أما الدعوى الأولى: فهي مركبة من صغرى مفروضة الصدق، لأنه ليس جسما ولا جسمانيا فيكون مجردا، ومن كبرى، ومعناها أنه عالم بذاته. ويمكن توضيحه بالوجه التالي: إن العلم ليس إلا حضور الشئ لدى الشئ، والعائق عن الحضور هو كون الشئ جسما أو جسمانيا، لأن لازمهما التفرق والانبساط وعدم اجتماع الأجزاء وغيبوبة بعضها عن بعض، وهو مفقود بالفرض، لأنه مجرد وليس له جزء يغيب بعضه عن بعض، فهو بوحدته وبساطته كمال مطلق ليس له جزء يغيب بعضه عن بعض، وعند ذاك تكون ذاته حاضرة لدى ذاته، وقد عرفت أن العلم ليس إلا الحضور. وما قاله الشارح: " وكل مجرد حصل له مجرد " يريد من المجرد الأول نفس الشئ ومن قوله: " حصل له مجرد " حصول ذاته لذاته أي حضور ذاته لدى ذاته.
هذا كله حول الدعوى الأولى التي انتهت إلى علمه سبحانه بذاته.
وأما الدعوى الثانية: أنه مجرد، وكل مجرد عالم بغيره، التي تريد إثبات علمه سبحانه بما سواه من أفعاله فبيانه يتوقف على ثبوت أمور ثلاثة:
1 - أن كل مجرد أمكن أن يكون معقولا وحده.
2 - وكل ما يمكن أن يكون معقولا وحده أمكن أن يكون معقولا مع غيره.
3 - وكل مجرد يعقل مع غيره فإنه عاقل لذلك الغير.
وإليك بيان الأمور الثلاثة:
أما الأول، أعني: كل مجرد يمكن أن يكون معقولا وحده، أي بلا وساطة صورة مرتسمة والشاهد عليه قوله: " لأن المانع من التعقل إنما هو المادة لا غير " ومن المعلوم أنها تمنع عن المعقولية المباشرية أي بلا واسطة، لا مع الواسطة وإلا يلزم امتناع حصول العلم بالمادة والماديات وهو كما ترى، ولعل ما في الأمر الأول لا يتجاوز عما ثبت في الدعوى الأولى وهو أنه سبحانه مجرد وكل مجرد عالم بذاته.
وأما الثاني: أعني كل ما يمكن أن يكون معقولا وحده أمكن أن يكون معقولا مع غيره، فإن كل معقول لا ينفك عن الأمور العامة كالإمكان والوجود والوحدة وغيرها فإن كل معقول يصح أن يعقل مع أحد هذه الأمور.
إلى هنا ثبت معقولية المجرد لنفسه وكونه معقولا مع كل ما يقارنه.
بقي الكلام في أن المجرد عاقل لذلك المقارن، وهذا هو الذي نبينه في الأمر الثالث، فإن إمكان مقارنة معقول مجرد لمجرد، كاف في الحكم بعلمه به، وذلك أخذا بمقتضى التجرد، الذي يستلزم عدم العائق والمانع، ولا يتوقف إمكان الشئ على وقوعه، فإمكان المقارنة مساوق لوقوع المقارنة، وحيث إنه لا مانع من التعقل ينتج أنه سبحانه عالم بأفعاله التي هي بمنزلة المعقول الثاني.
وإن شئت قلت: إنه لا شك أن كل مجرد عاقل لنفسه فيكون معقولا، لأن المانع من المعقولية بالذات هو المادة والمفروض عدمها.
وعلى ذلك كما يمكن أن يكون معقولا وحده، يمكن أن يكون معقولا مع الغير أي يصح أن يقارن معقول معقولا في العقل، فإذا ثبت إمكان اقترانهما في العقل ثبت مطلق اقترانهما، لأن الاقتران في العقل نوع من المقارنة وليست المقارنة منحصرة فيه، ولو توقف إمكان مقارنة المعقولين على مقارنتهما في العقل لزم توقف إمكان الشئ على وجوده وهو كما ترى.
فإذا ثبت أن مطلق المقارنة ممكن، فلو تحققت تلك المقارنة وقارن مجرد مجردا لكان عاقلا له، إذ المانع من التعقل هو المادية وهي في المقام منتفية، كل ذلك بشرط تحقق المقارنة.
يلاحظ عليه: أن البرهان على فرض تماميته يثبت علم المجرد بكل مجرد مقارن، والمقارنة تحصل إما بالحلول أو بالصدور، والأول كالصور المرتسمة في النفس، والثاني هي نفسها أيضا على القول بأن النفس خلاق لها.
ولكنه عقيم بالنسبة إلى علم البارئ للموجودات الإمكانية، من المجرد إلى الهيولي، لعدم تجرد الجميع، والجسمانيات مغمورة في المادة والماديات، والعلم بصورها غير علمه بذواتها والمقصود علمه بذواتها ولا بد من التماس دليل آخر.
(٢٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 ... » »»