معجم ما استعجم - البكري الأندلسي - ج ١ - الصفحة ٢٦٦
ذهب المقداد لحاجته ببقيع الخبجبة، فإذا جرذ يخرج من جحر دينارا، ثم لم يزل يخرج دينارا، حتى أخرج سبعة عشر دينارا، ثم أخرج خرقة حمراء بقى فيها دينار، فكانت ثمانية عشر; فذهب بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: خذ صدقتها: فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل أهويت للجحر بيدك؟ قال: لا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بارك الله لك فيها (1)!

(١) ساق أبو عبيد البكري مؤلف هذا المعجم، بعد الكلام على بقيع الغرقد مقبرة أهل المدينة. الكلام على " النقيع المحمى " الذي حماه النبي صلى الله عليه وسلم لخيل الجهاد، وحماه عمر من بعده، وزاد فيه.
ولذي أنفق عليه العلماء أن النقيع المحمى هذا، واد قرب المدينة، بينه وبينه نحو مرحلتين أو ليلتين، وقيل بينه وبينها نحو عشرين فرسخا.
والذي اختلفوا فيه أمران:
الأول: أهو نقيع الخضمات أم غيره؟
والثاني: أهو بقيع بالباء أم نقيع بالنون؟
وسننقل هنا من النصوص ما يشير إلى خلاف العلماء في الامر الأول.
(ا) قال ياقوت في المعجم: " وهو نقيع الخضمات، موضع حماه عمر بن الخطاب لخيل المسلمين، وهو من أودية الحجاز، يدفع سيله إلى المدينة، سلك العرب إلى مكة منه، وحمى النقيع على عشرين فرسخا أو نحو ذلك من المدينة قال: وفى كتاب نصر " القيع: موضع قرب المدينة، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، حماه لخيله، وله هناك مسجد يقال له مقمل، وهو من ديار مزينة، وبين النقيع والمدينة عشرون فرسخا; وهو غير نقيع الخضمات، وكلاهما بالنون، والباء فيهما خطأ ".
(ب) وفى كلام القاموس وشرحه إشارة إلى الاختلاف في الامر الأول، قالا:
" والنقيع: موضع بلاد مزينة، على ليلتين، وفى نسخة على مرحلتين، وفى المعجم والعباب على عشرين فرسخا من المدينة، وهو نقيع الخضمات، الذي حماه عمر لعم الفئ وخيل المجاهدين، فلا يرعاه غيرها، كما قال ابن الأثير والصاغاني.
قال ابن الأثير: ومنه الحديث في عمر: حمى غرر النقيع. وفى حديث آخر: أول جمعة جمعت في الاسلام بالمدينة في نقيع الخضمات; هكذا ضبطه غير واحد.
أو متغايران، وكلاهما بالنون كما في العباب. وضبطه ابن يونس عن ابن إسحاق بالباء الموحدة. كذا في الروض للسهيلي ".
أما الامر الثاني، فقد أشار إليه كل من النصين السالفين إشارة موجزة في آخره; ولكن في ياقوت تفصيلا للضبط في موضع آخر، قال:
" وحمى النقيع على عشرين فرسخا، كذا في كتاب عياض. ومساحته ميل في بريد، وفيه شجر يستجم حتى يغيب الراكب فيه.
واختلف الرواة في ضبطه، فمنهم من قيده بالنون، منهم النسفي، وأبو ذر القابسي، وكذلك قيد في مسلم عن الصدفي وغيره، وكذلك لابن ماهان، وكذا ذكره الهروي والخطابي. قال الخطابي: وقد صحفه بعض أهل الحديث بالباء، وإنما الذي بالباء مدن أهل المدينة. قال: ووقع في كتاب الأصيلي بالفاء مع النون، وهو تصحيف. وإنما هو بالنون والقاف. قال: وقال أبو عبيد البكري: هو بالباء والقاف بقيع الغرقد.
قال ياقوت: وحكى السهلي عن أبي عبيد البكري بخلاف ما حكاه عنه عياص.
قال السهيلي في حديث النبي أنه حمى غرز النقيع: قال الخطابي: النقيع:
القاع; والغرز: نبت شبه الثمام، بالنون. وفى راوية ابن إسحاق مرفوعا إلى أبى أمامة أن أول جمعة جمعت بالمدينة في هزم بني بياضة، في بقيع يقال له بقيع الخضمات.
قال السهلي: وجدته في نسخة الشيخ أبى بحر بالباء، وكذا وجدته في رواية ابن يونس عن ابن إسحاق. قال: وذكر أبو عبيد الكرى في كتاب معجم ما استعجم من أسماء البقيع، أنه نقيع بالنون، ذكر ذلك بالنون والقاف ".
قال ياقوت: هكذا نقلا هذان الامامان عن أبي عبيد البكري; إلا أن يكون أبو عبيد جعل الموضع الذي حماه النبي، وهو حمى غرز البقيع، بالباء، فغلط، والله أعلم به. على أن القاضي عياضا والسهيلي لم أر لهما فرقا بينهما، ولا جعلاهما موضعين، وهما موضعان لا شك فيهما إن شاء الله.
أقول: ومن هذه النصوص يتبين لنا أن البكري تصحف عليه اللفظ أولا، فتابع بعض المحدثين وبعض أصحاب السير كابن إسحاق فضبطه في مسودة المعجم:
" البقيع المحمى " بالباء، ووضعه حيث هو في كتاب حرف الباء، كما هو ظاهر في النسخة التي نشير إليها بالحرف ج، وهي طبعة جوتنجن للمستشرق وستنفلد.
وقد ذكر فيها أيضا النقيع بالنون، في كتاب حرف النون، ذكرا موجزا، وأشار إلى حديث البخاري أن عمر حمى غرز النقيع. قال: ونقيع الخضمات: موضع آخر... الخ.
ثم بدا للبكري وجه الحق في النقيع المحمى، فكتبه ثانية بشئ من التفصيل، عدل فيه عن ضبطه بالباء، ونبه في أول كلامه على أن ضبطه بالنون، وأن بعض المحدثين يخطئون فيه، فيكتبونه بالباء لا بالنون; وهذا ما رأيناه في النسخ الثلاث المخطوطة المرموز لها في طبعتنا هذه بالأحرف س، ز، ق، فإنها نقلت الزيادة التي أضافها البكري إلى شرح الكلمة، وفيها النص على أنه بالنون لا بالباء.
وهذا يفسر لنا ما يقوله ياقوت في المعجم، وهو ما نقلناه في نصه آنفا، من أن القاضي عياضا والسهيلي اختلف نقلهما عن معجم أبى عبيد البكري في ضبط اللفظ، فضبطه عياض بالباء نقلا عن البكري، ونقله السهيلي بالنون نقلا عن البكري أيضا; وتعليل هذا يسير بعد الذي قدمناه، فإن كلا من الشيخين نقل عن نسخة غير نسخة الآخر، فنقل عياض عن النص القديم، ونقل السهيلي عن النص المنقح، الذي يعتبر كأنه تبييض.
وقد فات البكري شئ كان جديرا أن يتنبه له، وهو أن يلغى ما كتبه في حرف النون في رسم " النقيع " موجزا، وأن يثبت بدله ما كتبه عنه في حرف الباء مطولا، بعد إذ تبين له وجه الحق فيه، لان في بقائه في حرف الباء شبهة لا تزال نتردد في نفس القارئ.
لذلك رأينا وقد رتبنا المعجم ترتيبا خاصا، أن نضع الألفاظ في مواضعها التي هي لها. فنقلنا " النقيع من كتاب حرف الباء، إلى كتاب حرف النون لما في ذلك من تيسير البحث على رواد هذا المعجم. والله الموفق.
(٢٦٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 261 262 263 264 265 266 267 268 269 270 271 ... » »»
الفهرست