الأئمة الإثني عشر - الشيخ جعفر السبحاني - الصفحة ٣٤
تنصيب علي - عليه السلام - للإمامة:
لا شك في أن الدين الإسلامي دين عالمي، وشريعة خاتمة، وقد كانت قيادة الأمة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ما دام على قيد الحياة، وطبع الحال يقتضي أن يوكل مقام القيادة بعده إلى أفضل أفراد الأمة وأكملهم.
إن في هذه المسألة وهي أن منصب القيادة بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنه منصب انتخابي؟ اتجاهين:
فالشيعة ترى أن مقام القيادة منصب تنصيصي، ولابد أن ينص على خليفة النبي من السماء، بينما يرى أهل السنة أن هذا المنصب انتخابي جمهوري، أي أن على الأمة ان تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد.
إن لكل من الاتجاهين المذكورين دلائل، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية، إلا أن ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة، فإن هذه الدراسة كفيلة باثبات صحة أحد الاتجاهين.
إن تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الإسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأن خليفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لابد أن يعين من جانب الله تعالى، ولا يصح أن يوكل هذا إلى الأمة، فإن المجتمع الإسلامي كان مهددا على الدوام بالخطر الثلاثي (الروم - الفرس - المنافقين) بشن الهجوم الكاسح، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين.
كما أن مصالح الأمة كانت توجب أن يوحد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده، وبذلك يسد الطريق على نفوذ العدو في جسم الأمة الإسلامية والسيطرة عليها، وعلى مصيرها.
وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب:
لقد كانت الإمبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذي يحيط بالكيان الإسلامي، ويهدده من الخارج والداخل.
وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز في شمال الجزيرة العربية، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام، حتى أن التفكير في أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة، والالتحاق بالرفيق الأعلى.
وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين، وقد أدت هذه المواجهة إلى استشهاد القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم جعفر الطيار وزيد بن حارثة وعبد الله بن حارثة.
ولقد تسبب انسحاب الجيش الإسلامي بعد استشهاد القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش.
من هنا خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جدا إلى حدود الشام ليقود بنفسه أية مواجهة عسكرية، وقد استطاع الجيش في هذا الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة، ويجدد حياته السياسية:
غير أن هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأعد قبيل مرضه جيشا كبيرا من المسلمين، وأمر عليهم أسامة بن زيد، وكلفهم بالتوجه إلى حدود الشام، والحضور في تلك الجبهة.
أما الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي، فكان الإمبراطورية الإيرانية (الفارسية) وقد بلغ من غضب هذه الإمبراطورية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعاداتها لدعوته، أن أقدم امبراطور إيران خسرو برويز على تمزيق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتوجيه الإهانة إلى سفيره باخراجه من بلاطه، والكتابة إلى واليه وعميله باليمن بأن يوجه إلى المدينة من يقبض على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو يقتله إن امتنع.
وخسرو هذا وإن قتل في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن استقلال اليمن - التي رزحت تحت استعمار الإمبراطورية الإيرانية ردحا طويلا من الزمان - لم يغب عن نظر ملوك إيران آنذاك، وكان غرور أولئك الملوك وتجبرهم وكبرياؤهم لا يسمح بتحمل منافسة القوة الجديدة (القوة الإسلامية) لهم.
والخطر الثالث كان هو خطر حزب النفاق الذي كان يعمل بين صفوف المسلمين كالطابور الخامس على تقويض دعائم الكيان الإسلامي من الداخل إلى درجة أنهم قصدوا اغتيال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، في طريق العودة من تبوك إلى المدينة.
فقد كان بعض عناصر هذا الحزب الخطر يقول في نفسه، ان الحركة الإسلامية سينتهي أمرها بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورحيله، وبذلك يستريح الجميع (1).

(1) الطور / 30.
(٣٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 ... » »»