الأئمة الإثني عشر - الشيخ جعفر السبحاني - الصفحة ٣٢
2 - إن معاوية سأل ضرارا بن حمزة بعد موت علي عنه، فقال: صف لي عليا، فقال:
أوتعفيني؟ قال: صفه، قال: أوتعفيني؟ قال: لا أعفيك، قال: أما إذ لا بد فأقول ما أعلمه منه:
والله كان بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلا، ويحكم عدلا، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفيه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب.
كان والله كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه ويبتدئنا إذا اتيناه، ويأتينا إذا دعوناه، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتدئه عظمة، إن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين، ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله.
فأشهد بالله لقد رأيته في بعض مواقفه وقد أرخى الليل سدوله، وغارت نجومه وقد مثل في محرابه قابضا على لحيته يتململ تململ السليم ويبكي بكاء الحزين وكأني أسمعه وهو يقول: يا دنيا أبي تعرضت؟ أم إلي تشوقت؟ هيهات، هيهات غري غيري قد باينتك ثلاثا لا رجعة لي فيك، فعمرك قصير وعيشك حقير، وخطرك كثير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق.
قال: فذرفت دموع معاوية على لحيته فما يملكها وهو ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال معاوية: رحم الله أبا الحسن كان والله كذلك فكيف حزنك عليه يا ضرار؟
قال: حزن من ذبح ولدها في حجرها فلا ترقأ عبرتها ولا يسكن حزنها (1).

(١) ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة ١٨ / 225 وغيره.
(٣٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 ... » »»