التوابون - الدكتور إبراهيم بيضون - الصفحة ٣٠
وتوفي عمر، واجتمع هؤلاء فوضحت منذ البداية معالم الصراع، حيث أعلن أربعة من المرشحين عزفهم عن ترشيح أنفسهم مع احتفاظهم بحق التصويت. وبذلك انحصرت المعركة بين علي وعثمان، وأوكلت الأمور إلى عبد الرحمن بن عوف لاختيار واحد منهما. وقام هذا الأخير باستطلاع آراء الناس، فكان أن واجه تيارين: أحدهما مل قسوة نظام عمر ورقابته المركزية الشديدة وعدم تساهله، ورأى في استلام علي للحكم استمرارا، لا بل تطويرا لنظام الخليفة السابق، وتطبيقا أشد لقوانين الاسلام. ذلك أن عليا كان ابن الاسلام وربيب البيت النبوي وعارفا بأمور الدين وعلومه أكثر من سواه، فقد شرب من ينابيعه الأولى منذ البداية وحتى نهاية حياة النبي بلا انقطاع أو توقف، كما رأى اتباع هذا التيار ان في استلام علي للسلطة انتصارا دائما للتيار الهاشمي الذي انتصر بنجاح النبي وطعن يوم السقيفة. ولقد كان اتباع هذا التيار أقل قوة من التيار الآخر، غير أنه كان أكثر مرونة وأوسع دهاء وأقل مثالية وأبرع في اعداد الانقلابات وخلق المواقف المحرجة (1).

(1) جاء في تاريخ الطبري ان عبد الرحمن بن عوف بعث في صبيحة اليوم الثالث لوفاة عمر إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، والى امراء الأجناد فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله فقال: ايها الناس، ان الناس قد أحبوا ان يلحق اهل الأمصار بأمصارهم وقد علموا من أميرهم، فقال سعيد بن زيد: انا نراك لها أهلا، فقال: أشيروا علي بغير هذا. فقال عمار: ان أردت الا يختلف المسلمون فبايع عليا، فقال المقداد بن الأسود: صدق عمار، ان بايعت عليا قلنا سمعنا وأطعنا. قال ابن أبي سرح: ان أردت الا تختلف قريش فبايع عثمان: فقال عبيد الله بن أبي ربيعة: صدق أن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا. فشتم عمار ابن أبي سرح وقال: متى كنت تنصح المسلمين. فتكلم بنو هاشم وبنو أمية فقال عمار: أيها الناس أن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الامر عن أهل بيت نبيكم! فقال رجل من بني مخزوم: لقد عدوت طورك يا ابن سمية، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها. فقال سعد بن أبي وقاص: يا عبد الرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس، فقال عبد الرحمن: اني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلا. ودعا عليا فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أرجو أن أفعل واعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان فقال له مثل ما قال لعلي، قال: نعم، فبايعه، فقال علي: حبوته حبو دهر ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان الا ليرد الامر إليك والله كل يوم هو في شأن. فقال عبد الرحمن: يا علي لا تجعل على نفسك سبيلا فاني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان، فخرج علي وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله، فقال المقداد: يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون، فقال: يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين. فقال المقداد: ما رأيت مثل ما أوتي أهل هذا البيت بعد نبيهم، أني لأعجب من قريش انهم تركوا رجلا ما أقول أن أحدا أعلم ولا أقضى منه بالعدل. فقال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فأني خائف عليك الفتنة، فقال علي: أن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: أن ولي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبدا، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم - الطبري: 5 / 37 - 38.
(٣٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 36 ... » »»