قال أبو الفرج الببغاء كنت طول مقامي بدمشق آنس بمن يطرقني في ذوي الأقدار ففي بعض الأيام تذاكرنا أخبار عقلاء المجانين وفي الجماعة فتى من أولاد الكتاب فقال لي معنا في البلد فتى في مشاهدة حاله ما يلهيني عما نحن فيه وهو في البيمارستان فقلت له ما خبره فقال كان صبيا ونشأ مع جارية كانت لأخته كاملة الحسن والأدب فألفها وألفته فلما كبرا حجبتها عنه فمرضا جميعا فلما انكشفت أمرهما وهبتها له أخته فاستأنفا عمرا جديدا واقتصر كل منهما على صاحبه لا يعتاض بغير ما هو فيه بمسرة ولم يزالا على ذلك فلما كانا في بعض الليالي خليا على عادتهما للأنس فعرض للجارية خلط أدى إلى استفراغ وفواق (1) وضيق نفس فتلفت فهجم على قلب الفتى ما سلب عقله فمنع من دفنها ظنا بحدوث غشي إلى أن ظهرت أمارات الموت فأكره على دفنها فامتنع من الغذاء وواصل الأنس بقربها واختلط فكره إلى أن صار يثب بمن يدنو إليه ويسرع إلى إفساد ما يتمكن منه وتجاوز ذلك حد ضبطه بغلمانه ومن في داره فنقل إلى البيمارستان ليبتعد عن قبرها وعن مشاهدة الأمكنة التي كان يجتمع بها فيها ولم يقدر على ذلك إلا بعد تقييده فحصل هنالك مخدوما بماله وغلمانه وربما ثاب فعاد إلى إفهام من يخاطبه فما يخلو من أبيات تكتب أو حديث يستفاد منه قال فقلت بادر بنا إليه فلما صرنا في الصحن وقعت عيني على فتى في نهاية حسن الوجه ونظافة الثوب والآلة فسلمت عليه فرد أحسن رد فلما جلست تبسم وقال الذي قصدت له علم باطن المشاهدة لا ظاهرها قلت هو ذاك قال كثر علي سؤال من يسألني عن ذلك وتكلف الجواب فاقتصرت على أبيات جعلتها نائبة عن العرض فسألته إنشادها فأنشأ يقول * من منصفي من جور أزماني * إذ وضح الحق ببرهان كنت جليل القدر في أسرتي * معظما ما بين إخواني أصلح بالتحصيل والعقل ما * يفسده الإهمال من شاني فصرت (2) مجنونا لأن الردى * أفنى مسراتي بأحزاني أوحش من نور عيوني (3) التي * أغرت بفيض الدمع أجفاني
(١٣٣)