أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٩ - الصفحة ٤٣
لا حجر عليهم، كما أن المنفك لا حجر عليه، وهو لم يقل مفكوكين، بل قال: منفكين، وهذا أحسن، إلى أن قال: والمقصود أنهم لم يكونوا متروكين لا يؤمرون ولا ينهون ولا ترسل إليهم رسل.
والمعنى: أن الله لا يخليهم ولا يتركهم، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولا، وهذا كقوله: * (أيحسب الإنسان أن يترك سدى) *، لا يؤمر، ولا ينهى، أي: أيظن أن هذا يكون؟ هذا ما لا يكون البتة، بل لا بد أن يؤمر وينهى.
وقريب من ذلك قوله تعالى: * (إنا جعلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه فى أم الكتاب لدينا لعلى حكيم * أفنضرب عنكم الذكر صفحا أن كنتم قوما مسرفين) *. وهذا استفهام إنكار أي لأجل إسرافكم نترك إنزال الذكر، ونعرض عن إرسال الرسل.
تبين من ذلك كله أن الأصح في (منفكين) معنى (متروكين) وبه يزول الإشكال الذي أورده الفخر الرازي، ويستقيم السياق، ويتضح المعنى، وبالله تعالى التوفيق * (حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة) *. أجمل البينة ثم فصلها فيما بعدها * (رسول من الله يتلو صحفا) *.
وفي هذا قيل: إن البينة هي نفس الرسول في شخصه، لما كانوا يعرفونه قبل مجيئه، كما في قوله: * (ومبشرا برسول يأتى من بعدى اسمه أحمد) *، وقوله: * (يعرفونه كما يعرفون أبنآءهم) *.
فكأن وجوده صلى الله عليه وسلم بذاته بينة لهم.
ولذا جاء في الآثار الصحيحة أنهم عرفوا يوم مولده بظهور نجم نبي الختان إلى آخر أخباره صلى الله عليه وسلم، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، وكذلك المشركون كانوا يعرفونه عن طريق أهل الكتاب، وبما كان متصفا به صلى الله عليه وسلم، ومن جميل الصفات كما قالت له خديجة عند بدء الوحي له وفزعه منه: (كلا والله لن يخزيك الله، والله إنك لتحمل الكل وتعين على نوائب الدهر) إلى آخره.
وقول عمه أبي طالب: (والله ما رأيته لعب مع الصبيان ولا علمت عليه كذبة) إلخ. وقد لقبوه بالأمين.
(٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 ... » »»