أضواء البيان - الشنقيطي - ج ٥ - الصفحة ٤١٠
منها: أن التغريب سنة زيادة على قوله تعالى: * (فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) *، والمقرر في أصول الحنفية هو أن الزيادة على النص نسخ له، وإذا كانت زيادة التغريب على الجلد في الآية تعتبر نسخا للآية فهم يقولون: إن الآية متواترة، وأحاديث التغريب أخبار آحاد. والمتواتر عندهم لا ينسخ بالآحاد، وقد قدمنا في مواضع من هذا الكتاب المبارك أن كلا الأمرين ليس بمسلم، أما الأول منهما وهو أن كل زيادة على النص، فهي ناسخة له ليس بصحيح؛ لأن الزيادة على النص لا تكون ناسخة له على التحقيق، إلا إن كانت مثبتة شيئا قد نفاه النص أو نافية شيئا أثبته النص، أما إذا كانت زيادة شئ سكت عنه النص السابق، ولم يتعرض لنفيه، ولا لإثباته فالزيادة حينئذ إنما هي رافعة للبراءة الأصلية المعروفة في الأصول بالإباحة العقلية، وهي بعينها استصحاب العدم الأصلي، حتى يرد دليل ناقل عنه، ورفع البراءة الأصلية ليس بنسخ، وإنما النسخ رفع حكم شرعي كان ثابتا بدليل شرعي.
وقد أوضحنا هذا المبحث في سورة (الأنعام)، في الكلام على قوله تعالى: * (قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا) *.
وفي سورة (الحج) في مبحث اشتراط الطهارة للطواف في كلامنا الطويل على آيات (الحج) وغير ذلك من مواضع هذا الكتاب المبارك.
وأما الأمر الثاني: وهو أن المتواتر لا ينسخ بأخبار الآحاد؛ فقد قدمنا في سورة (الأنعام) في الكلام على آية (الأنعام) المذكورة آنفا، أنه غلط فيه جمهور الأصوليين غلطا لا شك فيه، وأن التحقيق هو جواز نسخ المتواتر بالآحاد؛ إذا ثبت تأخرها عنه، ولا منافاة بينهما أصلا، حتى يرجح المتواتر على الآحاد، لأنه لا تناقض مع اختلاف زمن الدليلين؛ لأن كلا منهما حق في وقته، فلو قالت لك جماعة من العدول: إن أخاك المسافر لم يصل بيته إلى الآن، ثم بعد ذلك بقليل من الزمن أخبرك إنسان واحد أن أخاك وصل بيته، فإن خبر هذا الإنسان الواحد أحق بالتصديق من خبر جماعة العدول المذكورة؛ لأن أخاك وقت كونهم في بيته لم يقدم، وبعد ذهابهم بزمن قليل قدم أخوك فأخبرك ذلك الإنسان بقدومه وهو صادق. وخبره لم يعارض خبر الجماعة الآخرين لاختلاف زمنهما كما أوضحناه في المحل المذكور؛ فالمتواتر في وقته قطعي، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي،
(٤١٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 405 406 407 408 409 410 411 412 413 414 415 ... » »»