تبوك سنة تسع، وفيها نزل صدر سورة آل عمران، وناظر أهل الكتاب ودعاهم إلى التوحيد والمباهلة، ويدل عليه أن أهل مكة، وجدوا في نفوسهم على ما فاتهم من التجارة من المشركين، لما أنزل الله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا) * فأعاضهم الله تعالى من ذلك الجزية، ونزول هذه الآيات، والمناداة بها إما كان عام تسع، وبعث الصديق رضي الله عنه بذلك في مكة في موسم الحج، وأردفه بعلي رضي الله عنه، وهذا الذي ذكرناه قد قاله غير واحد من السلف والله أعلم. انتهى من زاد المعاد.
فتحصل: أن آية * (وأتموا الحج والعمرة لله) *، لم تدل على وجوب الحج ابتداء، وإنما دلت على وجوب إتمامه بعد الشروع فيه كما هو ظاهر اللفظ، ولو كان يتعين كونه يدل على ابتداء الوجوب لما حصل خلاف بين أهل العلم في وجوب العمرة، والخلاف في وجوبها معروف، وسيأتي إن شاء الله إيضاحه.
بل الذي أجمعوا عليه: هو وجوب إتمامها بعد الشروع فيها، كما هو ظاهر الآية، وأن قصة ضمام بن ثعلبة، كانت عام تسع كما رجحه ابن حجر وغيره، فظهر سقوط الاستدلال بها وبالآية الكريمة، وأن الحج إنما فرض عام تسع كما أوضحه ابن القيم في كلامه المذكور آنفا، لأن آية * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * هي الآية التي فرض بها الحج: وهي من صدر سورة آل عمران، وقد نزل عام الوفود وفيه قدم وفد نجران، وصالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أداء الجزية، والجزية إنما نزلت عام تبوك سنة تسع كما تقدم قريبا، وعلى كون الحج إنما فرض عام تسع غير واحد من العلماء، وهو الصواب إن شاء الله تعالى.
وبه تعلم أنه لا حجة في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الحج عام فتح مكة، لأنه انصرف من مكة والحج قريب، ولم يحج. لأنه لم يفرض.
فإن قيل: سلمنا تسليما جدليا أن سبب تأخيره الحج عام فتح مكة، مع تمكنه منه، وقدرته عليه أن الحج لم يكن مفروضا في ذلك الوقت، وقد اعترفتم بأن الحج فرض عام تسع، وهو صلى الله عليه وسلم لم يحج عام تسع، بل أخر حجه إلى عام عشر، وهذا يكفينا في الدلالة على أن وجوبه على التراخي، إذ لو كان على الفور لما أخره بعد فرضه إلى عام عشر.
فالجواب والله تعالى أعلم: أن عام تسع لم يتمكن فيه النبي، وأصحابه من منع المشركين من الطواف بالبيت، وهم عراة، وقد بين الله تعالى في كتابه أن منعهم من قربان المسجد الحرام، إنما هو بعد ذلك العام الذي هو عام تسع وذلك في قوله تعالى: * (ياأيها الذين ءامنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هاذا) *، وعامهم هذا هو عام تسع، فدل على أنه لم يمكن منعهم عام تسع، ولذا أرسل عليا رضي الله عنه بعد أبي بكر ينادي ببراءة: وأن لا يحج بعد العام مشرك، ولا عريان، فلو بادر صلى الله عليه وسلم إلى الحج عام تسع لأدى ذلك إلى رؤيته المشركين يطوفون بالبيت، وهم عراة وهو لا يمكنه أن يحضر ذلك، ولا سيما في حجة الوداع التي يريد أن يبين للناس فيها مناسك حجهم، فأول وقت أمكنه فيه الحج صافيا من الموانع والعوائق بعد وجوبه عام عشر، وقد بادر بالحج فيه والعلم عند الله تعالى، وأجابوا عن قولهم: كونه صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين لم يسوقوا الهدي، أن يفسخوا حجهم في عمرة، دليل على تأخير الحج، لأنهم بعد ما أحرموا فيه فسخوه في عمرة، وحلوا منه بأن هذا ليس فيه تأخير الحج لعزمهم على أن يحجوا في تلك السنة بعينها، وتأخير الحج: إنما هو بتأخيره من سنة إلى أخرى، وذلك ليس بواقع هنا، فلا تأخير للحج في الحقيقة، لأنهم حجوا في عين الوقت الذي حج فيه من لم يفسخ حجه في عمرة، فلا تأخير كما ترى، وأجابوا عن قولهم: إنه لو أخره من سنة إلى أخرى، أو سنين، ثم فعله بعد ذلك فإنه يسمى مؤديا لا قاضيا بالإجماع، ولو حرم التأخير، لكان قضاء بأن القضاء لا يكون إلا في العبادة الموقتة بوقت معين. ثم خرج ذلك الوقت المعين لها كما هو مقرر في الأصول، والحج لم يوقت بزمن معين والعمر كله وقت له، وذلك لا ينافي وجوب المبادرة خوفا من طرو العوائق، أو نزول الموت قبل