وقال العلامة ابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين عن رب العالمين) بعد أن ذكر قول من منع القياس مطلقا، وقول من غلا فيه، وذكر أدلة الفريقين ما نصه:
وقال المتوسطون بين الفريقين: قد ثبت أن الله سبحانه قد أنزل الكتاب والميزان. فكلاهما في الإنزال أخوان، وفي معرفة الإحكام شقيقان، وكما لا يتناقض الكتاب في نفسه، فالميزان الصحيح لا يتناقض في نفسه، ولا يتناقض الكتاب والميزان، فلا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة ولا دلالة الأقيسة الصحيحة، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح. بل كلما متصادقة متعاضدة متناصرة، يصدق بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض. فلا يناقض القياس الصحيح، النص الصحيح أبدا.
ونصوص الشارع نوعان: أخبار، وأوامر، فكما أن أخباره لا تخالف العقل الصحيح، بل هي نوعان: نوع يوافقه ويشهد على ما يشهد به جملة، أو جملة وتفصيلا. ونوع يعجز عن الاستقلال بإدراك تفصيله وإن أدركه من حيث الجملة. فهكذا أوامر سبحانه نوعان: نوع يشهد به القياس والميزان، ونوع لا يستقل بالشهادة به ولكن لا يخالفه وكما أن القسم الثالث في الأخبار محال وهو ورودها بما يرده العقل الصحيح، فكذلك الأوامر ليس فيها ما يخالف القياس والميزان الصحيح. وهذه الجملة إنما تنفصل بتمهيد قاعدتين عظيمتين.
إحداهما أن الذكر الأمري محيط بجميع أفعال المكلفين أمرا ونهيا، وإذنا وعفوا. كما أن الذكر القدري محيط بجميعها علما وكتابة وقدرا. فعلمه وكتابته وقدره قد أحصى جميع أفعال عباده الواقعة تحت التكليف وغيرها. وأمره نهيه وإباحته وعفوه قد أحاط بجميع أفعالهم التكليفية. فلا يخرج فعل من أفعالهم عن أحد الحكمين: إما الكوني، وإما الشرعي الأمري. فقد بين الله سبحانه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بكلامه وكلام رسوله جميع ما أمر به، وجميع ما نهى عنه، وجميع ما أحله، وجميع ما حرمه، وجميع ما عفا عنه. وبهذا يكون دينه كاملا كما قال تعالى: * (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى) * ولكن قد يقصر فهم أكثر الناس عن فهم ما دلت عليه النصوص، وعن وجه الدلالة وموقعها، وتفاوت الأمة في مراتب الفهم عن الله ورسوله لا يحصيه إلا الله جل وعلا. ولو كانت الأفهام متساوية لتساوت أقسام العلماء في العلم، ولما خص سبحانه سليمان بفهم الحكومة في الحرث، وقد أثنى عليه وعلى داود بالحكم والعلم. وقد قال عمر لأبي