الدنيا. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك: أن من أنواع البيان التي تضمنها الاستدلال على أحد المعاني الداخلة في معنى الآية بكونه هو الغالب في القرآن فغلبته فيه دليل استقرائي على عدم خروجه من معنى الآية. وقد قدمنا أمثلة لذلك. فإذا علمت ذلك فاعلم أن ابن عباس رضي الله عنهما استدل على المراد بورود النار في الآية بمثل ذلك الدليل الذي ذكرنا أنه من أنواع البيان في هذا الكتاب المبارك.
وإيضاحه أن ورود النار جاء في القرآن في آيات متعددة، والمراد في كل واحدة منها الدخول. فاستدل بذلك ابن عباس على أن (الورود في الآية التي فيها النزاع هو الدخول)، لدلالة الآيات الأخرى على ذلك، كقوله تعالى: * (يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود) * قال: فهذا ورود دخول، وكقوله: * (لو كان هاؤلاء ءالهة ما وردوها وكل فيها خالدون) * فهو ورود دخول أيضا، وكقوله: * (ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا) * وقوله تعالى: * (إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون) * وبهذا استدل ابن عباس على نافع بن الأزرق في (أن الورود الدخول).
واحتج من قال بأن الورود: الإشراف والمقاربة بقوله تعالى: * (ولما ورد مآء مدين) *. قال: فهذا ورود مقاربة وإشراف عليه. وكذا قوله تعالى: * (فأرسلوا واردهم) *. ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته: فأرسلوا واردهم) *. ونظيره من كلام العرب قول زهير بن أبي سلمى في معلقته:
* فلما وردن الماء زرقا جمامه * وضعن عصي الحاضر اطلمتخيم * قالوا: والعرب تقول: وردت القافلة البلد وإن لم تدخله، ولكن قربت منه. واحتج من قال بأن الورود في الآية التي نحن بصددها ليس نفس الدخول بقوله تعالى: * (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولائك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فى ما اشتهت أنفسهم خالدون) * قالوا: إبعادهم عنها المذكور في هذه الآية يدل على عدم دخولهم فيها؛ فالورود غير الدخول.
واحتج من قال: بأن ورود النار في الآية بالنسبة للمؤمنين حر الحمى في دار الدنيا بحديث (الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء) وهو حديث متفق عليه من حديث عائشة وأسماء ابنتي أبي بكر، وابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهم. ورواه البخاري أيضا مرفوعا عن ابن عباس:
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: قد دلت على أن الورود في الآية معناه الدخول أدلة: الأول هو ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن جميع ما في القرآن من ورود النار معناه دخولها غير محل النزاع، فدل ذلك على أن محل النزاع كذلك، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. الدليل الثاني هو أن في نفس الآية قرينة دالة على ذلك، وهي أنه تعالى لما خاطب جميع الناس بأنهم سيردون النار برهم وفاجرهم بقوله: * (وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا) * بين مصيرهم ومآلهم بعد ذلك الورود المذكور بقوله: * (ثم ننجى الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها) * أي نترك الظالمين فيها دليل على أن ورودهم لها دخولهم فيها، إذ لو لم يدخلوها لم يقل: ونذر الظالمين فيها. بل يقول: وندخل الظالمين، وهذا واضح كما ترى وكذلك قوله: * (ثم ننجى الذين اتقوا) * دليل على أنهم وقعوا فيما من شأنه أنه هلكة، ولذا عطف على قوله: * (وإن منكم إلا واردها) * قوله: * (ثم ننجى الذين اتقوا) *.
الدليل الثالث ما روي من ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة: أخرج أحمد وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فقال بعضنا: لا يدخلها مؤمن. وقال بعضهم: يدخلونها جميعا ثم ينجي الله الذين اتقوا. فلقيت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما فذكرت له ذلك فقال وأهوى بأصبعيه إلى أذنيه: صمتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها: فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجا من بردهم، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا) ا ه. وقال ابن حجر في (الكاف الشاف في تخريج أحاديث الكشاف) في هذا الحديث: رواه أحمد وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد قالوا: حدثنا سليمان بن حرب، وأخرجه أبو يعلى والنسائي في الكنى، والبيهقي في الشعب في باب النار، والحكم في النوادر، كلهم من طريق سليمان قال: حدثنا أبو صالح غالب بن سليمان، عن كثير بن زياد عن أبي سمية قال: اختلفنا في الورود فسألنا جابرا فذكر الحديث أتم من اللفظ