تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٥ - الصفحة ٦٤
* (إنا جعلن‍اه قرءانا عربيا) * جواب للقسم، والجعل بمعنى التصيير المعدى لمفعولين لا بمعنى الخلق المعدى لواحد لا لأنه ينافي تعظيم القرآن بل لأنه يأباه ذوق المقام المتكلم فيه لأن الكلام لم يسبق لتأكيد كونه مخلوقا وما كان إنكارهم متوجها عليه بل هو مسوق لإثبات كونه قرآنا عربيا مفصلا واردا على أساليبهم لا يعسر عليهم فهم ما فيه ودرك كونه معجزا كما يؤذن به قوله تعالى: * (لعلكم تعقلون) * أي لكي تفهموه وتحيطوا بما فيه من النظر الرائق والمعنى الفائق وتقفوا على ما يتضمنه من الشواهد الناطقة بخروجه عن طوق البشر وتعرفوا حق النعمة في ذلك وتنقطع أعذاركم بالكلية والقسم بالقرآن على ذلك من الإيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به ولا أهم من وصفه فيقسم عليه كما قال أبو تمام: وثناياك إنها اغريض * ولآل قوم وبرق وميض بناء على أن جواب القسم قوله: إنها إغريض، واستدل بالآية على أن القرآن مخلوق وأطالوا الكلام في ذلك، وأجيب بأنه إن دل على المخلوقية فلا يدل على أكثر من مخلوقية الكلام اللفظي ولا نزاع فيها.
وأنت تعلم أن الحنابلة ينازعون في ذلك ولهم عن الاستدلال أجوبة مذكورة في كتبهم، وأخرج ابن مردويه. عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس من حضرموت فقال له: يا ابن عباس أخبرني عن القرآن أكلام من كلام الله تعالى أم خلق من خلق الله سبحانه قال: بل كلام من كلام الله تعالى أو ما سمعت الله سبحانه يقول: * (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * (التوبة: 6) فقال له الرجل: أفرأيت قوله تعالى: * (إنا جعلناه قرآنا عربيا) * قال: كتبه الله تعالى فيا للوح المحفوظ بالعربية أما سمعت الله تعالى يقول: * (بل هو قرآن مجيد * في لوح محفوظ) * (البروج: 21، 22) فتأمل فيه.
* (وإنه فىأم الكت‍ابلدينا لعلى حكيم) *.
* (وإنه في أم الكتاب) * أي في اللوح المحفوظ على ما ذهب إليه جمع فإنه أم الكتب السماوية أي أصلها لأنها كلها منقولة منه، وقيل: * (أم الكتاب) * العلم الأزلي، وقيل: الآيات المحكمات والضمير - لحم - أو للكتاب بمعنى السورة أي أنها واقعة في الآيات المحكمات التي هي الأم وهو كما ترى.
وقرأ الأخوان * (إم) * بكسر الهمزة لاتباع الميم أو * (الكتاب) * فلا تكسر في عدم الوصل * (لدينا) * أي عندنا * (لعلي) * رفيع الشأن بين الكتب لإعجازه واشتماله على عظيم الأسرار * (حكيم) * ذو حكمة بالغة أو محكم لا ينسخه غيره أو حاكم على غيره من الكتب وهما خبران لإن، وفي * (أم الكتاب) * قيل متعلق بعلى واللام لما فارقت محلها وتغيرت عن أصلها بطلت صدراتها فجاز تقديم ما في حيزها عليها أو حال منه لأنه صفة نكرة تقدمتها أو من ضميره المستتر و * (لدينا) * بدل من * (أم الكتاب) * وهما وإن كانا متغايرين بالنظر إلى المعنى متوافقان بالنظر إلى الحاصل أو حال منه أو من الكتاب فإن المضاف في حكم الجزء لصحة سقوطه، ولعل المختار كون الظرفين في موضع الخبر لمبتدأ محذوف والجملة مستأنفة لبيان محل الحكم كأنه قيل بعد بيان اتصافه بما ذكر من الوصفين الجليلين هذا في أم الكتاب ولدينا، ولم يجوزوا كونهما في موضع الخبر لإن لدخول اللام في غيرهما.
وأيا ما كان فالجملة المؤكدة إما عطف على الجملة المقسم عليها داخلة في حكمها وإما مستأنفة مقررة لعلو شأن القرآن
(٦٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 ... » »»