تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٤ - الصفحة ١٦
كانت المغفرة مشروطة بالتوبة كما لا يخفى، وكذا ما أخرجه ابن جرير عن ابن سيرين قال: قال علي كرم الله تعالى وجهه أي آية أوسع؟ فجعلوا يذكرون آيات من القرآن * (من يعمل سوأ أو يظلم نفسه) * (النساء: 110) الآية ونحوها فقال علي كرم الله تعالى وجهه: ما في القرآن أوسع آية من * (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم) * (الزمر: 53) الآية.
والمؤكدات السابقة أعني السبعة عشر لا يخلو بعضها عن بحث، والظاهر أن مغفرة ذنب لا تجامع العذاب عليه أصلا، وذهب بعضهم إلى أنها تجامعه إذا كان انقض من الذنب لا إذا كان بمقداره فمن عذب بمقدار ذنبه في النار، وأخرج منها لا يقال إنه غفر له إذ السيئات إنما تجزى بأمثالها، وقيل: تجامعه مطلقا وكون السيئات لا تجزى إلا بأمثالها بلطفه تعالى أيضا فهو نوع من عفوه عز وجل وفيه ما فيه فتأمل، وأصل الإنابة الرجوع.
ومعنى * (وأنيبوا إلى ربكم) * (الزمر: 54) الخ أي ارجعوا إليه سبحانه بالإعراض عن معاصيه والندم عليها، وقيل: بالانقطاع إليه تعالى بالعبادة وذكر الرب كالتنبيه على العلة، وقال القشيري: الإنابة الرجوع بالكلية، والفرق بين الإنابة والتوبة أن التائب يرجع من خوف العقوبة والمنيب يرجع استحياء لكرمه تعالى، والإسلام له سبحانه الإخلاص في طاعاته عز وجل، وذكر أن الإخلاص بعد الإنابة أن يعلم العبد أن نجاته بفضل الله تعالى لا بإنابته فبفضله سبحانه وصل إلى إنابته لا بإنابته وصل إلى فضله جل فضله. وعن ابن عباس من حديث أخرجه ابن جرير. وابن المنذر عنه " من آيس العباد من التوبة فقد جحد كتاب الله تعالى ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله تعالى عليه ".
* (واتبعوا أحسن مآ أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون) *.
* (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) * الظاهر أنه خطاب للعباد المخاطبين فيما تقدم سواء أريد بهم المؤمنون أو ما يعمهم والكافرين، والمراد بما أنزل القرآن وهو كما أنزل إلى المؤمنين أنزل إلى الكافرين ضرورة أنه أنزل عليه صلى الله عليه وسلم لدعوة الناس كافة، والمراد بأحسنه ما تضمن الإرشاد إلى خير الدارين دون القصص ونحوها أو المأمور به أو العزائم أو الناسخ، وأفعل على الأول والثالث على ظاهره وعلى الثاني والرابع فيه احتمالان؛ وقيل: لعل الأحسن ما هو أنجى وأسلم كالإنابة والمواظبة على الطاعة وأفعل فيه على ظاهره أيضا، وجوز أن يكون الخطاب للجنس، والمراد بما أنزل الكتب السماوية وبأحسنه القرآن، وفيه ارتكاب خلاف الظاهر، وفي ذكر الرب ترغيب في الاتباع * (من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة) * أي فجأة * (وأنتم لا تشعرون) * لا تعلمون أصلا بمجيئه فتتداركون ما يدفعه * (أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت فى جنب الله وإن كنت لمن الس‍اخرين) *.
* (أن تقول نفس) * في موضع المفعول له بتقدير مضاف، وقدره الزمخشري كراهة وهو منصوب بفعل محذوف يدل عليه ما قبل أي أنذركم وأمركم بأحسن ما أنزل إليكم كراهة أن تقول، ومن لا يشترط للنصب اتحاد الفاعل يجوز كون الناصب * (أنيبوا) * أو * (اتبعوا) * وأيا ما كان فهذه الكراهة مقابل الرضا دون الإرادة فلا اعتزال في تقديرها، وهو أولى من تقدير مخافة كما فعل الحوفي حيث قال: أي أنذرناكم مخافة أن تقول، وابن عطية جعل العامل * (أنيبوا) * ولم يقدر شيئا من الكراهة والمخافة حيث قال: أي أنيبوا من أجل أن تقول، وذهب بعض النحاة إلى أن التقدير لئلا تقول؛ وتنكير * (نفس) * للتكثير بقرينة المقام كما في قول الأعشى: ورب بقيع لو هتفت بجوه * أتاني كريم ينفض الرأس مغضبا فأنه أراد أفواجا من الكرام ينصرونه لا كريما واحدا، وجوز أن يكون للتبعيض لأن القائل بعض الأنفس واستظهره أبو حيان، قيل: ويكفي ذلك في الوعيد لأن كل نفس يحتمل أن تكون ذلك، وجوز أيضا أن
(١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 ... » »»