تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٢٣ - الصفحة ١٨٨
أي ذوي باطل، والباطل اللعب والعبث أي ما خلقنا ذلك مبطلين لاعبين كقوله تعالى: * (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين) * (الدخان: 38) وجوز كونه حالا من المفعول أيضا بنحو هذا التأويل، وأيا ما كان فالكلام مستأنف مقرر لما قبله من أمر المعاد والحساب فإن خلق السماء والأرض وما بينهما من المخلوقات مشتملا على الحكم الباهرة والأسرار البالغة والفوائد الجمة أقوى دليل على عظم القدرة وأنه لا يتعاصاها أمر المعاد والحساب فإن خلق ذلك كذلك مؤذن بأنه عز وجل لا يترك الناس إذا ماتوا سدى بل يعيدهم ويحاسبهم ولعله الأولى.
وجوز كون الجملة في موضع الحال في فاعل * (نسوا) * جىء بها لتفظيع أمر النسيان كأنه قيل: بما نسوا يوم الحساب مع وجود ما يؤذن به وهو كما ترى، وجوز كون * (باطلا) * مفعولا له ويفسر بخلاف الحق ويراد به متابعة الهوى كأنه قيل: ما خلقنا هذا العالم للباطل الذي هو متابعة الهوى بل للحق الذي هو مقتضى الدليل من التوحيد والتدرع بالشرع كقوله تعالى: * (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) * (الذاريات: 56) ولا يخفى بعده، وعليه تكون الجملة مستأنفة لتقرير أمر النهي عن اتباع الهوى، وقيل: تكون عطفا على ما قبلها بحسب المعنى كأنه قيل: لا تتبع الهوى لأنه يكون سببا لضلالك ولأنه تعالى لم يخلق العالم لأجل متابعة الهوى بل خلقه للتوحيد والتمسك بالشرع فلا تغفل.
* (ذالك) * إشارة إلى ما نفى من خلق ما ذكر باطلا * (ظن الذين كفروا) * أي مظنونهم ليصح الحمل أو يقدر مضاف أي ظن ذلك ظن الذين كفروا فإن إنكارهم المعاد والجزاء قول بأن خلق ما ذكر خال عن الحكمة وإنما هو عبث ولذا قال سبحانه: * (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون) * (المؤمنون: 115) أو فإن إنكارهم ذلك قول بنفي عظم القدرة وهو قول بنفي دليله وهو خلق ما ذكر مشتملا على الحكم الباهرة والإسرار، وهذا بناء على الوجه الأول في بيان التقرير وهو كما ترى * (فويل للذين كفروا) * مبتدأ وخبر والفاء لإفادة ترتب ثبوت الويل لهم على ظنهم الباطل كما أن وضع الموصول موضع ضميرهم لإشعار ما في حيز الصلة بعلية كفرهم له، ولا تنافي بينهما لأن ظنهم من باب كفرهم فيتأكد أمر التعليل، و * (من) * في قوله تعالى: * (من النار) * ابتدائية أو بيانية أو تعليلية كما في قوله تعالى: * (فويل لهم مما كتبت أيديهم) * (البقرة: 79) ونظائره وتفيد على هذا علية النار لثبوت الويل لهم صريحا بعد الإشعار بعلية ما يؤدى إليها من ظنهم وكفرهم أي فويل لهم بسبب النار المترتبة على ظنهم وكفرهم، قيل والكلام عليه على تقدير مضاف أي من دخول النار.
* (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الص‍الح‍ات ك المفسدين فى الارض أم نجعل المتقين ك الفجار) *.
* (أم نجعل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض) * أم منقطعة وتقدر ببل والهمزة، والهمزة لإنكار التسوية بين الفريقين ونفيها على أبلغ وجه وآكده، وبل للإضراب الانتقالي من تقرير أمر البعث والحساب بما مر من نفي خلق العالم باطلا إلى تقريره وتحقيقه بإنكار التسوية بين الفريقين أي بل أنجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين في الأرض التي جعلت مقرا له كما يقتضيه عدم البعث وما يترتب عليه من الجزاء لاستواء الفريقين في التمتع في الحياة الدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا منها من أكثر المؤمنين لكن ذلك الجعل محال مخالف للحكمة فتعين البعث والجزاء حتما لرفع الأولين إلى أعلى عليين ورد الآخرين إلى أسفل سافلين كذا قالوا، وظاهره أن محالية جعل الفريقين سواء حكمة تقتضي تعين المعاد الجسماني، وفيه خفاء، والظاهر أن المعاد الروحاني يكفي لمقتضى الحكمة من إثابة الأولين وتعذيب الآخرين فالدليل العقلي الذي تشير إليه الآية ظاهر في إثبات معاد لكن بعد إبطال التناسخ وهو كاف في الرد على كفرة
(١٨٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 183 184 185 186 187 188 189 190 191 192 193 ... » »»