لتوفية مقام الامتنان حقه، واللام متعلقة بجعل وتقديمها على مفعوليه للاعتناء ببيان كون ما بعد من منافعهم، وفي تعقيب بيان أحوال الظل ببيان أحكام الليل الذي هو ظل الأرض من لطف المسلك ما لا مزيد عليه أي وهو الذي جعل لنفعكم الليل كاللباس يستركم بظلامه كما يستركم اللباس * (و) * جعل * (النوم) * الذي يقع فيه غالبا بسبب استيلاء الأبخرة على القوى عادة، وقيل: بشم نسيم يهب من تحت العرش ولا يكاد يصح.
* (سباتا) * راحة للأبدان بقطع الأفاعيل التي تكون حال اليقظة، وأصل السبت القطع، وقيل: يوم السبت لما جرت العادة من الاستراحة فيه على ما قيل، وقيل: لأن الله تعالى لم يخلق فيه شيئا، ويقال للعليل إذا استراح من تعب العلة: مسبوت، وإلى هذا ذهب أبو مسلم.
وقال أبو حيان: السبات ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به، والسبت الإقامة في المكان فكان النوم سكونا ما * (وجعل النهار نشورا) * أي ذا نشور ينتشر فيه الناس لطلب المعاش فهو كقوله تعالى: * (وجعلنا النهار معاشا) * (النبأ: 11) وفي جعله نفس النشور مبالغة، وقيل: نشورا بمعنى ناشرا على الإسناد المجازي، وجوز أن يراد بالسبات الموت لما فيه من قطع الإحساس أو الحياة، وعبر عن النوم به لما بينهما من المشابهة التامة في انقطاع أحكام الحياة، وعليه قوله تعالى: * (وهو الذي يتوفاكم بالليل) * (الأنعام: 60) وقوله سبحانه: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها) * (الزمر: 42) وبالنشور البعث أي وجعل النهار زمان بعث من ذلك الثبات أو نفس البعث على سبيل المبالغة. وأبى الزمخشري الراحة في تفسير السبات وقال: إنه يأباه النشور في مقابلته إباء العيوف الورد وهو مرنق، وكأن ذلك لأن النشور في القرآن لا يكاد يوجد بمعنى الانتشار والحركة لطلب المعاش، وعلل في " الكشف " إباء الزمخشري بذلك وبأن الآيات السابقة واللاحقة مع ما فيها من التذكير بالنعمة والقدرة أدمج فيها الدلالة على الإعادة فكذلك ينبغي أن لا يفرق بين هذه وبين أترابها.
وكأنه جعل جعل الليل لباسا والنوم فيه سباتا بمجموعه مقابل جعل النهار نشورا ولهذا كرر جعل فيه لما في النشور من معنى الظهور الحركة الناصبة أو معنى الظهور والبعث ولم يسلك في آية سورة النبأ هذا المسلك لما لا يخفى.
* (وهو الذىأرسل الرياح بشرى بين يدى رحمته وأنزلنا من السمآء مآء طهورا) * * (وهو الذي أرسل الرياح) * وقرأ ابن كثير بالتوحيد على إرادة الجنس بأل أو الاستغراق فهو في معنى الجمع موافقة لقراءة الجمهور، وقال ابن عطية: قراءة الجمع أوجه لأن الريح متى وردت في القرآن مفردة فهي للعذاب ومتى كانت للمطر والرحمة جاءت مجموعة لأن ريح المطر تتشعب وتتذأب وتتفرق وتأتي لينة من ههنا وههنا وشيئا إثر شيء وريح العذاب تأتي جسدا واحدا لا تتذأب إلا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه.
وقال الرماني: جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح الجنوب. والصبا. والدبور وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور، وفي قوله صلى الله عليه وسلم إذا هبت الريح: اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا إشارة إلى ما ذكر، وأنت تعلم أن في كلام ابن عطية غفولا عن التأويل الذي تتوافق به القراءتان، وقد ذكر في " البحر " أنه لا يسوغ أن يقال في تلك القراءة أنها أوجه من القراءة الأخرى مع أن كلا منهما متواتر، وأل في الريح للجنس فتعم، وما ذكر في التفرقة بين المفرد والمجموع أكثري أو عند عدم القرينة أو في المنكر كما جاء في الحديث، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الروم ما يتعلق بهذا المبحث.