أبا عمران موسى بن عمران الاشبيلي يقول لأبي القاسم بن عفير الخطيب وقد أنكر ما يذكر أهل الطريقة يا أبا القاسم لا تفعل فإنك إن فعلت هذا جمعنا بين حرمانين لا ندري ذلك من نفوسنا ولا نؤمن به من غيرنا وما ثم دليل يرده ولا قادح يقدح فيه شرعا أو عقلا انتهى.
ويفهم منه أن ما يرده الدليل الشرعي أو العقلي لا يقبل وهو الذي إليه أذهب وبه أقول، واسأل الله تعالى أن يوفقني وإياك لكل ما هو مرضى لديه سبحانه ومقبول، والتنوين في قوله تعالى: * (رحمة) * للتفخيم وكذا في قوله سبحانه: * (وعلمناه من لدنا علما) * أي علما لا يكتنه كنهه ولا يقادر قدره وهو علم الغيوب وأسرار العلوم الخفية، وذكر * (لدنا) * قيل لأن العلم من أخص صفاته تعالى الذاتية وقد قالوا: إن القدرة لا تتعلق بشيء ما لم تتعلق الإرادة وهي لا تتعلق ما لم يتعلق العلم فالشيء يعلم أولا فيراد فتتعلق به القدرة فيوجد.
وذك أنه يفهم من فحوى * (من لدنا) * أو من تقديمه على * (علما) * اختصاص ذلك بالله تعالى كأنه قيل علما يختص بنا ولا يعلم إلا بتوقيفنا، وفي اختيار * (علمناه) * على آتيناه من الإشارة إلى تعظيم أمر هذا العلم ما فيه، وهذا التعليم يحتمل أن يكون بواسطة الوحي المسموع بلسان الملك وهو القسم الأول من أقسام الوحي الظاهري كما وقع لنبنا صلى الله عليه وسلم في أخباره عن الغيب الذي أوحاه الله تعالى إليه في القرآن الكريم، وأن يكون بواسطة الوحي الحاصل بإشارة الملك من غير بيان بالكلام وهو القسم الثاني من ذلك ويسمى بالنفث كما في حديث إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله تعالى واجملوا في الطلب والإلهام على ما يشير إليه بعض عبارات القوم من هذا النوع، ويثبتون له ملكا يسمونه ملك الإلهام، ويكون للأنباء عليهم السلام ولغيرهم بالإجماع، ولهم في الوقوف على المغيبات طرق تتشعب من تزكية الباطن.
والآية عندهم أصل في إثبات العلم اللدني، وشاع اطلاق علم الحقيقة والعلم الباطن عليه ولم يرتض بعضهم هذا الإطلاق، قال العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراني عليه الرحمة في كتابة المسمى بالدرر المنثورة في بيان زبد العلوم المشهورة ما لفظه: وأما زبدة علم التصوف الذي وضع القوم فيه رسائلهم فهو نتيجة العمل بالكتاب والسنة فمن عمل بما علم تكلم بما تكلموا وصار جميع ما قالوه بعض ما عنده لأنه كلما ترقى العبد في باب الأدب مع الله تعالى دق كلامه على الافهام، حتى قال بعضهم لشيخه: إن كلام أخى فلان يدق على فهمه فقال: لأن لك قميصين وله قميص واحد فهو أعلى مرتبة منك، وهذا هو الذي دعا الفقهاء ونحوهم من أهل الحجاب إلى تسمية علم الصوفية بالعلم الباطن وليس ذلك بباطن إذ الباطن إنما هو علم الله تعالى وأما جميع ما علمه الخلق على اختلاف طبقاتهم فهو من العلم الظاهر لانه ظهر للخلق فاعلم ذلك انتهى.
والحق أن اطلاق العلم الباطن اصطلاحا على ما وقفوا عليه صحيح ولا مشاحة في الاصطلاح، ووجه أنه غير ظاهر على أكثر الناس ويتوقف حصوله على الوقة القدسية دون المقدمات الفكرية وإن كان كل علم يتصف بكونه باطنا وكونه ظاهرا بالنسبة للجاهل به والعالم به، وهذا كاطلاق العلم الغريب على علم الأوفاق والطلسمات والجفر وذلك لقلة وجوده والعارفين به فاعرف ذلك. وزعم بعضهم أن أحكام العلم الباطن وعلم الحقيقة مخالفة لأحكام الظاهر وعلم الشريعة وهو زعم باطل عاطل وخيال فاسد كاسد، وسيأتي أن شاء الله تعالى نقل نصوص القوم فيما يرده وانه لا مستند لهم في قصة موسى والخضر عليهما السلام.