تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٤ - الصفحة ٢٥٩
لا تكن في ضيق صدر وحرج وفيه استعارة لا تخفى ولا داعي إلى ارتكاب القلب، وقال أبو عبيدة: الضيق بالفتح مخفف ضيق كهين وهين أي لا تك في أمر ضيق. ورده أبو علي كما في البحر بأن الصفة غير خاصة بالموصوف فلا يجوز ادعاء الحذف ولذلك جاز مررت بكاتب وامتنع بآكل. وتعقب بالمنع لأنه إذا كانت الصفة عامة وقدر موصوف عام فلا مانع منه * (مما يمكرون) * أي من مكرهم بك فيما يستقبل فالأول كام في إرشاد العقل السليم نهي عن التألم بمطلوب من جهتهم فات والثاني نهي عن التألم بمحذور من جهتهم آت، وفيه أن انلهي عنهما مع أن انتفاءهما من لوازم الصبر المأمور به لزيادة التأكيد وإظهار كمال العناية بشأن التسلية وإلا فهل يخطر ببال من توجه إلى الله تعالى بشراشره متنزها عن كل ما سواه سبحانه من الشواغل شيء مطلوب فينهي عن الحزن بفواته، وقيل: يمكرون بمعنى مكروا، وإنما عبر بالمضارع استحضارا للصورة الماضية، والأول نهى عن الحزن على سوء حالهم في أنفسهم من اتصافهم بالكفر والاعراض عن الدعوة والثاني نهى عن الحزن على سوء حالهم معه صلى الله عليه وسلم من إيذائهم له بالتمثيل بأحبابه ونحوه والمراد من النهيين محض التسلية لا حقيقة النهي، وأنت تعلم أن الظاهر إبقاء المضارع على حقيقته فتأمل.
* (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) * .
* (إن الله مع الذين اتقوا) * تعليل لما سبق من الأمر وانلهي، والمراد بالمعية الولاية الدائمة التي لا يحول حول صاحبها شيء من الجزع والحزن وضيق الصدر وما يشعر به دخول كلمة * (مع) * من متبوعية المتقين من حيث أنهم المباشرون للتقوى، والمراد بها هنا أعلى مراتبها أعني التنزع عن كل ما يشغل السر عن الحق سبحانه والتبتل إليه تعالى بالكلية لأن ذلك هو المورث لولايته عز وجل المقرونة ببشارة * (ألا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) * (يونس: 120) والمعنى أن الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه سبحانه بالكلية وتنزهوا عن كل ما يشغل سرهم عنه عز وجل فلم يخطر ببالهم شيء من مطلوب أو محذور فضلا عن الحزن عليه فواتا أو وقوعا وهو المعنى بما به الصبر المأمور به على أول الاحتمالات السالفة وبذلك يحصل التقريب ويتم التعليل وإلا فمجرد التوقي عن المعاصي لا يكون مدارا لشيء من العزائم المرخص في تركها فكيف بالصبر المشار إليه ورديفيه وإنما مداره المعنى المذكور فكأنه قيل: إن الله مع الذين صبروا، وإنما أوثر عليه ما في النظم الكريم مبالغة في الحث على الصبر بالتنبيه على أنه من خصائص أجل النعوت الجليلة وروادفه كما أن قوله تعالى: * (والذين هم محسنون) * للاشعار بأنه من باب الاحسان الذي فيه يتنافس المتنافسون على ما يؤذن بذلك قوله تعالى: * (واصبر فإن الله لا يضيع أجر المجسنين) * (هود: 115) وقد نبه سبحانه على أن كلا من الصبر والتقوى من قبيل الإحسان بقوله تعالى: * (إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المجسنين) * (يوسف: 90) وحقيقة الإحسان الإتسان بالأعمال على الوجه اللائق، وقد فسره صلى الله عليه وسلم بأن تعبد الله تعالى كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وتكرير الموصول للإيذان بكفاية كل من الصلتين في ولايته سبحانه من غير أن تكون احداهما تتمة للأخرى، وإيراد الأول فعلية للدلالة على الحدوث كما أن إيراد الثانية اسمية لافادة كون مضمونها شيمة راسخة لهم، وتقديم التقوى على الإحسان لما أن التخلية مقدمة على التحلية، والمراد بالموصولين اما جنس المتقين والمحسنين ويدخل عليه الصلاة والسلام في زمرتهم دخولا أوليا وإما هو صلى الله عليه وسلم وأشياعه رضي الله تعالى عنهم وعبر بذلك عنهم مدحا لهم وثناء عليهم بالنعتين الجمليلين، وفيه رمز إلى أن صنيعه عليه الصلاة والسلام مستتبع لاقتداء الأمة به كقول من قال لابن عباس رضي الله تعالى عنهما عند التعزية:
(٢٥٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 252 253 254 255 256 257 258 259 260 261 262 » »»