غير واحد إلى أن فيها إشارة إلى تفاوت مراتب المدعوين إلا أنه خالف في بعض ما تقدم، ففي " الكشف " بعد أن ذكر أن كلام الزمخشري يدل على أنه عليه الصلاة والسلام ينبغي أن يجمع في الدعوة بين الثلاث فيكون الكلام في نفسه حسن التأليف منتجا لما علق به من الغرض ومع ذلك مقصودا به المناصحة لمن خوطب به ويكون المتكلم حسن الخلق في ذلك معلما ناصحا شفيقا رفيقا ما نصه: والأحسن على ما ذهب إليه المحققون أنه تعميم للدعوة حسب مراتب المدعوين في الفهم والاستعداد، فمن دعي بلسان الحكمة ليفاد اليقين العياني أو البرهاني هم السابقون، ومن دعي بالموعظة الحسنة وهي الإقناعات الحكمية لا الخطابات المشهورة طائفة دون هؤلاء، ومن دعي بالمجادلة الحسنة هم عموم أهل الإسلام والكفار أيضا اه، ولا أرى ما يوجب نفى أن يكون المراد بالموعظة الحسنة الخطابات المشهورة، وكونها مركبة من مقدمات مظنونة أو مقبولة من شخص معتقد فيه ولا يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم استعمال الظنيات أو أخذ كلام الغير والدعوة به هو الموجب لذلك لا يخفى ما فيه فتدبر.
وذكر الإحسائي رئيس الفرقة الظاهرة في زماننا المسماة بالكشفية في كتابه " شرح الفوائد " ما محصله إن المدعوين من المكلفين ثلاثة أنواع، وكذا الأدلة التي أشارت إليها الآية فإن كانوا من الحكماء العقلاء والعلماء النبلاء فدعوتهم إلى الحق الذي يريده الله تعالى منهم من معرفته بدليل الحكمة وهو الدليل الذوقي العياني الذي يلزم منه العلم الضروري بالمستدل عليه لأنه نوع من المعاينة كقولنا في رد من زعم أن حقائق الأشياء كانت كامنة في ذاته تعالى بنحو أشرف ثم أفاضها إنه لا بد وأن يكون لذاته سبحانه قبل الإفاضة حال مغاير لما بعدها سواء كان التغير في نفس الذات أو فيما هو في الذات فإن حصل التغير في الذات لزم حدوثها وإن حصل فيما هو في الذات - أعني حقائق الأشياء الكامنة - لزم أن تكون الذات محلا للمتغير المختلف ويلزم من ذلك حدوثها.
وكقولنا في إثبات أنه سبحانه أظهر من كل شيء: إن كل أثر يشابه صفة مؤثرة وأنه قائم بفعله قيام صدور كالأشعة بالنيرات والكلام بالمتكلم، فالأشياء هي ظهور الواجب بها لها لأنه سبحانه لا يظهر بذاته وإلا لاختلفت حالتاه، ولا يكون شيء أشد ظهورا من الظاهر في ظهوره لأن الظاهر أظهر من ظهوره وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفته إلا بظهوره مثل القيام فإن القائم أظهر في القيام من القيام والقاعد أظهر في القعود من القعود وإن كان لا يمكن التوصل إلى معرفتهما إلا بالقيام والقعود فتقول: يا قائم ويا قاعد، والمعنى لك إنما هو القائم والقاعد لا القيام والقعود لأنه بظهوره لك بذلك غيب عليك مشاهدته وإن التفت إليه احتجب عنك القائم والقاعد، وهو آلة لمعرفة المعارف الحقية كالتوحيد وما يلحق به، ومستنده الفؤاد وهو نور الله تعالى المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلم: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى " والنقل من الكتاب والسنة، وشرطه الذي يتوقف عليه فتح باب النور ثلاثة أشياء. أحدها أن تنصف ربك وتقبل منه سبحانه قوله ولا تتبع شهوة نفسك. وثانيها أن تقف عند بيانك وتبينك وتبيينك على قوله تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤلا) * (الإسراء: 36) وثالثها أن تنظر في تلك الأحوال أعني البيان وما بعده بعينه تعالى وهي العين التي هي وصف نفسه لك أعني وجودك من حيث كونه أثرا ونورا لا بعينك التي هي أنت من حيث - أنك أنت - أنت فإنك لا تعرف بهذه العين إلا الحادثات المحتاجة الفانية.
وإن كانوا من العلماء ذوي الألباب وأرباب القلوب فدعوتهم إلى الحق الذي يريده سبحانه منهم من اليقين الحقيقي في اعتقاداتهم بدليل الموعظة الحسنة وهي الدليل العقلي اليقيني الذي يلزم منه اليقين في الإيمان به