وقيل: إن * (من) * استفهامية مبتدأ، والجملة بعدها خبر، وجملة المبتدأ والخبر معلق عنها سادة مسد المفعول أو المفعولين، قيل: ولما كان مدار سخريتهم استجهالهم إياه عليه السلام في مكابدة المشاق الفادحة لدفع ما لا يكاد يدخل تحت الصحة على زعمهم من الطوفان ومقاساة الشدائد في عمل السفينة وكانوا يعدونه عذابا قيل: بعد استجهالهم * (فسوف) * الخ يعني أن ما أباشره ليس فيه عذاب لاحق بي * (فسوف تعلمون) * من يعذب، ولقد أصاب العلم بعد استجهالهم محزه انتهى، وهو ظاهر على تقدير حمل السخرية المنسوبة إليه عليه السلام على الاستجهال.
ولعله يمكن إجراؤه على تقدير حملها على ظاهرها أيضا بأدنى عناية فافهم، ووصف العذاب بالاخزاء لما في الاستهزاء والسخرية من لحوق الخزى والعار عادة والتعرض لحلول العذاب المقيم للمبالغة في التهديد، وفيه من المجاز ما لا يخفى، وتخصيصه بالمؤجل، وإيراد الأول بالاتيان غاية الجازلة، وحكى الزهراوي أنه قرىء يحل بضم الحاء.
* (حتى إذا جآء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن ءامن ومآ ءامن معه إلا قليل) * * (حتى إذا جآء أمرنا) * غاية لقوله سبحانه: * (يصنع الفلك) * (هود: 38) و * (حتى) * إما جارة متعلقة به، و * (إذا) * لمجرد الظرفية، وإما ابتدائية داخلة على الشرط وجوابه، والجملة لا محل لها من الاعراب، وحال ما وقع في البين قد مرت الإشارة إليه، والأمر إما واحد الأوامر أي الأمر بركوب السفينة. أو بالفوران. أو للسحاب بالارسال. أو للملائكة عليهم السلام بالتصرف فيما يراد. أو نحو ذلك، وإما واحد الأمور وهو الشأن أعني نزول العذاب بهم * (وفار التنور) * أي نبع منه المار وارتفع بشدة كما تفور القدر بغليانها وفيه من الاستعارة ما لا يخفى، والمراد من التنور تنور الخبز عند الجمهور، وكان على ما روي عن الحسن. ومجاهد تنورا لحواء تخبز فيه ثم صار لنوح عليه السلام وكان من حجارة، وقيل: هو تنور في الكوفة في موضع مسجدها عن يمين الداخل مما يلي باب كندة، وجاء ذلك في رواية عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: تنور بالهند، وقيل: بعين وردة من أرض الجزيرة العمرية أو من أرض الشام، وقيل: ليس المراد به تنورا معينا بل الجنس، والمراد فار الماء من التنانير، وفي ذلك من عجيب القدرة ما لا يخفى، ولا تنافي بين هذا وقوله سبحانه: * (وفجرنا الأرض عيونا) * إذ يمكن أن يكون التفجير غير الفوران فحصل الفوران للتنور والتفجير للأرض، أو يراد بالأرض أماكن التنانير، ووزنه تفعول من النور، وأصله تنوور فقلبت الواو الأولى همزة لانضمامها، ثم حذفت تخفيفا، ثم شددت النون عوضا عما حذف، ونقل هذا عن ثعلب، وقال أبو على الفارسي: وزنه فعول، وقيل: على هذا أنه أعجمي ولا اشتقاق له، ومادته تنر، وليس في كلام العرب نون قبل راء، ونرجس معرب أيضا، والمشهور أنه مما اتفق فيه لغة العرب. والعجم كالصابون. والسمور، وعن ابن عباس . وعكرمة. والزهري أن * (التنور) * وجه الأرض هنا، وعن قتادة أنه أشرف موضع منها أي أعلاه وأرفعه، وأخرج ابن جرير. وأبو الشيخ. وغيرهما عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه تنوير الصبح، والظاهر أنه لم يستعمل في اللغة العجمية بهذه المعاني الأخيرة، وجوز أن يكون فوران التنور مجازا عن ظهور العذاب وشدة الهول، وهذا كما جاء في الخبر حمى الوطيس مجازا عن شدة الحرب وليس بين الجملتين كثير فرق في المعنى وهو معنى حسن لكنه بعيد عما جاءت به الأخبار * (قلنا احمل فيها) * أي في الفلك، وأنث الضمير لأنه بمعنى السفينة، والجملة استئناف أو جواب إذا * (من كل) * أي من كل نوع من الحيوانات ينتفع به الذين ينجون من الغرق وذراريهم بعد، ولم تكن العادة جارية بخلقه من غير ذكر وأنثى،