تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٢ - الصفحة ٦٣
عليهم الحجة ثم أنزل السماء عليهم بالطوفان إذ يبقى عليه مع ضعفه والتعارض بينه وبين الخبر السابق آنفا أمر إهلاك ما لم يكن في السفينة من الحيوانات وقد جاء عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه أن نوحا عليه السلام لما حمل من حمل في السفينة رأت البهائم والوحش والسباع العذاب فجعلت تلحس قدمه عليه السلام وتقول: احملنا معك فيقول: إنما أمرت أن أحمل من كل زوجين اثنين ولم يحملها وكذا لا يحتاج إلى الجواب بأن الله تعالى إنما أهلك أولئك الأطفال لعلمه جل شأنه بما كانوا فاعلين وذلك كما يقال في وجه إدخال أطفال الكفار النار يوم القيامة على قول من يراه لما أن فيه ما فيه، وبالجملة إماتة الأحياء بأي سبب كان دفعة أو تدريجا مما لا محذور فيه ولا يسئل عنه.
هذا واعلم أن هذه الآية الكريمة قد بلغت من مراتب الإعجاز أقاصيها واستدلت مصاقع العرب فسفعت بنواصيها وجمعت من المحاسن ما يضيق عنه نطاق البيان وكانت من سمهرى البلاغة مكان السنان، يروى أن كفار قريش قصدوا أن يعارضوا القرآن فعكفوا على لباب البر ولحوم الضأن وسلاف الخمر أربعين يوما لتصوف أذهانهم فلما أخذوا فيما قصدوه وسمعوا هذه الآية قال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين فتركوا ما أخذوا فيه وتفرقوا، ويروى أيضا أن ابن المقفع - وكان كما في " القاموس " فصيحا بليغا، بل قيل: إنه أفصح أهل وقته - رام أن يعارض القرآن فنظم كلاما وجعله مفصلا وسماه سورا فاجتاز يوما بصبي يقرؤها في مكتب فرجع ومحا ما عمل، وقال: أشهد أن هذا لا يعارض أبدا وما هو من كلام البشر، ولا يخفى أن هذا لا يستدعي أن لا يكون سائر آيات القرآن العظيم معجزا لما أن حد الإعجاز هو المرتبة التي يعجز البشر عن الإتيان بمثلها ولا تدخل على قدرته قطعا، وهي تشتمل على شيئين: الأول: الطرف الأعلى من البلاغة أعني ما ينتهي إليه البلاغة ولا يتصور تجاوزها إياه، والثاني: ما يقرب من ذلك الطرف أعني المراتب العلية التي تتقاصر القوى البشرية عنها أيضا؛ ومعنى إعجاز آيات الكتاب المجيد بأسرها هو كونها مما تتقاصر القوى البشرية عن الإتيان بمثلها سواء كانت من القسم الأول أو الثاني، فلا يضر تفاوتها في البلاغة وهو الذي قاله علماء هذا الشأن، وأنشد بعض الفرس في ذلك: در بيان ودر فصاحت كي بود يكسان سخن * ورجه كوينده بودوجون حافظ وجون أصمعي در كلام ايزد بيجون كه وحى منزلست * كي بود تيت يداجون قيل: يا أرض ابلعي وقد فصل بعض مزايا هذه الآية المهرة المتقنون وتركوا من ذلك ما لا يكاد يصفه الواصفون، ولا بأس بذكر شيء مما ذكر إفادة لجاهل وتذكير لفاضل غافل، فنقول: ذكر العلامة السكاكي أن النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني وهما مرجعا البلاغة. ومن جهة الفصاحة المعنوية. ومن جهة الفصاحة اللفظية، أما النظر فيها من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بذلك من القرينة والترشيح والتعريض فهو أنه عز سلطانه لما أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد. وأن نقطع طوفان السماء فانقطع. وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض. وأن نقضي أمر نوح عليه السلام وهو إنجاز ما كنا وعدناه من إغراق قومه فقضى. وأن نسوي السفينة عل الجودي فاستوت وأبقينا الظلمة غرقى، بنى سبحانه الكلام على تشبيه المراد منه بالمأمور الذي لا يتأتى منه لكمال هيبته من الآمر العصيان، وتشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكون المقصود تصويرا لاقتداره سبحانه العظيم، وأن هذه الأجرام العظيمة من السموات والأرض تابعة لإرادته تعالى إيجادا وإعداما ولمشيئته فيها تغييرا وتبديلا
(٦٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 ... » »»