تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ١٠ - الصفحة ٤٩
على هذا من قوله تعالى: * (إلى الذين عاهدتم) * كأنه قيل: براءة من الله تعالى ورسوله إلى المعاهدين إلا الباقين على العهد فأتموا إليهم أيها المسلمون عهدهم، ويكون فيه خروج من خطاب المسلمين في * (إلا الذين عاهدتم) * إلى خطاب المشركين في * (فسيحوا) * ثم التفات من التكلم إلى الغيبة في * (وعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله) * والأصل غير معجزي واني، وفي هذا الالتفات بعد الالتفات الأول افتنان في أساليب البلاغة وتفخيم للشأن وتعظيم للأمر، ثم يتلو هذا الالتفات العود إلى الخطاب في قوله سبحانه: * (إلا الذين عاهدتم) * الخ وكل هذا من حسنات الفصاحة انتهى، ولا يخفى ما فيه من كثرة التعسف و * (من) * قيل بيانية، وقيل: تبعيضية، وثم في قوله تعالى: * (ثم لم ينقصوكم شيئا) * للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمادي المدة وينقصوا بالصاد المهملة كما قرأ الجمهور يجوز أن يتعدى إلى واحد فيكون شيئا منصوبا على المصدرية أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كبيرا، ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون * (شيئا) * مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من النقصان لا قليلا ولا كثيرا، ويجوز أن يتعدى إلى اثنين فيكون * (شيئا) * مفعوله الثاني أي لم ينقصوكم شيئا من شروط العهد وأدوها لكم بتمامها، وقرأ عكرمة. وعطاء * (ينقضوكم) * بالضاد المعجمة، والكلام حينئذ على حذف مضاف أي لم ينقضوا عهودكم شيئا من النقض وهي قراءة مناسبة للعهد إلا أن قراءة الجمهور أوقع لمقابلة التمام مع استغنائها عن ارتكاب الحدف * (ولم يظ‍اهروا) * أي لميعاونوا * (عليكم أحدا) * من أعدائكم كما عدت بنو بكر على خزاعة فظاهرتهم قريش بالسلاح كما تقدم * (فأتموا اليهم عهدهم) * أي أدوه إليهم كملا * (إلى مدتهم) * أي إلى انقضائها ولا تجروهم مجرى الناكثين قيل: بقي لبني ضمرة. وبني مدلج حيين من كنانة من عهدهم تسعة اشهر فأتم إليهم عهدهم، وأخرج ابن أبي حاتم أنه قال: هؤلاء قريش عاهدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر فأمر الله تعالى شأنه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوفى لهم بعهدهم ذلك إلى مدتهم وهو خلاف ما تظافرت به الروايات من أن قريشا نقضوا العهد على ما علمت والمعتمد هو الأول * (إن الله يحب المتقين) * تعليل لوجوب الامتثال وتنبيه على أن مراعاة العهد من باب التقوى وأن التسوية بين الغادر والوفي منافية لذلك وإن كان المعاهد مشركا.
* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلواة وءاتوا الزكواة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) *.
* (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) * أي انقضت، وأصله من السلخ بمعنى الكشط يقال: سلخت الاهاب عن الشاة أي كشطته ونزعته عنها، ويجيء بمعنى الاخراج كما يقال: سلخت الشاة عن الاهاب إذا أخرجتها منه، وذكر أبو الهيثم أنه يقال: أهللنا شهر كذا أي دخلنا فيه فنحن نزداد كل ليلة لباسا إلى نصفه ثم نسلخه عن أنفسنا جزأ فجزأ حتى ينقضي وأنشد: إذا ما سلخت الشهر أهللت مثله * كفى قاتلا سلخى الشهور واهلالي والانسلاخ فيما نحن فيه استعارة حسنة وتحقيق ذلك أن الزمان محيط بما فيه من الزمانيات مشتمل عليه اشتمال الجلد على الحيوان وكذا كل جزء من أجزائه الممتدة كالأيام والشهور والسنين، فإذا مضى فكأنه انسلخ عما فيه، وفي ذلك مزيد لطف لما فيه من التلويح بأن تلك الأشهر كانت حرزا لأولئك المعاهدين عن غوائل أيدي المسلمين فنيط قتالهم بزوالها، ومن هنا يعلم أن جعله استعارة من المعنى الأولى للسلخ أولى من جعله من المعنى الثاني باعتبار أنه لما انقضى كأنه أخرج من الأشياى الموجودة إذ لا يظهر هذا التلويح عليه ظهوره على الأول * (وأل) * في الأشهر للعهد فالمراد بها الأشهر الأربعة المتقدمة في قوله سبحانه: * (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) * (التوبة: 2) وهو المروى عن مجاهد. وغيره. وفي الدر المصون أن العرب إذا ذكرت نكرة ثم أرادت ذكرها ثانيا أتت بالضمير أو باللفظ معرفا بأل ولا يجوز أن تصفه حينئذ بصفة تشعر بالمغايرة
(٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 ... » »»