تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٩ - الصفحة ١٠٢
أليس الليل يجمع أم عمرو * وإيانا فداك بنا تداني نعم وأرى الهلال كما تراه * ويعلوها النهار كما علاني وعلى ذلك جرى كلام سيبويه، وقال ابن عصفور: أجرت العرب التقرير في الجواب مجرى النفي المحض وإن كان إيجابا في المعنى فإذا قيل: ألم أعطك درهما قيل في تصديقه: نعم وفي تكذيبه بلى، وذلك لأن المقرر قد يوافقك فيما تدعيه وقد يخالفك فإذا قال: نعم لم يعلم هل أراد نعم لم تعطني على اللفظ أو نعم أعطيتني على المعنى فلذلك أجابوه على اللفظ ولم يلتفتوا إلى المعنى. وأما نعم في بيت جحدر فجواب لغير مذكور وهو ما قدره اعتقاده من أن الليل يجمعه وأم عمرو وجاز ذلك لأمن اللبس لعلمه أن كل أحد يعلم أن الليل يجمعه مع أن عمرو، أو هو جواب لقوله: وأرى الهلال قدم عليه وأما قول الأنصار: فجاز لأمن الليس لأنه قد علم أنهم يريدون نعم يعرف لهم ذلك، وعلى هذا يحمل استعماله سيبويه لها بعد التقرير انتهى.
والأحسن أن تكون نعم في البيت جوابا لقوله: فذاك بنا تداني، ثم قال ابن هشام: ويتحرر على هذا أنه لو أجيب * (ألست بربكم) * بنعم لم يكف في الإقرار لأنه سبحانه وتعالى أوجب في الإقرار بما يتعلق بالربوبية ما لا يحتمل غير المعنى المراد من المقر، ولهذا لا يدخل في الإسلام بقوله لا إله إلا الله برفع إله لاحتماله لنفي الوحدة، ولعل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إنما قال: إنهم لو قالوا: نعم لم يكن إقرارا وافيا، وجوز الشلوبين أن يكون مراده رضي الله تعالى عنه أنهم لو قالوا نعم جوابا للملفوظ على ما هو الأفصح لكان كفرا إذ لأصل تطابق السؤال والجواب لفظا، وفيه نظر لأن التكفير لا يكون بالاحتمال، والكلام عند جمع تمثيل لخلقه تعالى الخلق جميعا في مبدأ الفطرة مستعدين للاستدلال بالأدلة الآفاقية والأنفسية المؤدية إلى التوحيد كما نطق به قوله صلى الله عليه وسلم: " كل مولود يولد على الفطرة " الحديث مبني على تشبيه الهيئة المنتزعة من تعريضه سبحانه وتعالى إياهم لمعرفة ربوبيته ووحدانيته بعد تمكينهم منها بما ركز فيهم من العقول والبصائر ونصب لهم في الآفاق والأنفس من الدلائل تمكينا تاما ومن تمكنهم منها تمكنا كاملا وتعرضهم لها تعرضا قويا بهيئة منتزعة من حمله تعالى إياهم على الاعتراف بها بطريق الأمر ومن مسارعتهم إلى ذلك من غير تلعثم أصلا من غير أن يكون هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب، ونظير ذلك في قول ما في قوله سبحانه وتعالى: * (فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين) * ومن ذلك سائر ما يحكى عن الحيوان والجماد كقوله: شكا إلى جملي طول السري * مهللا رويدا فكلانا مبتلي وقوله: امتلأ الحوض وقال قطني * مهلا رويدا قد ملأت بطني وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: * (أن تقولوا) * من تلوين الخطاب وصرفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاصريه من اليهود تشديدا في الإلزام أو إليهم إلى متقدميهم بطريق التغليب وهو مفعول له لما قبله من الأخذ والإشهاد أو لمقدر يدل عليه ذلك، والمعنى على ما يقول البصريون: فعلنا مافعلنا كراهة أن تقولوا وعلى ما يقول الكوفوين: لئلا تقولوا * (يوم القي‍امة) * عند ظهور الأمر وإحاطة العذاب بمن أشرك * (إنا كنا عن هذا) * أي وحدنية الربوبية * (غ‍افلين) * لم ننبه عليه، وإنما لم يسعهم هذا الاعتذار
(١٠٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 97 98 99 100 101 102 103 104 105 106 107 ... » »»