بالنعم قد علمت الجواب عنه، وذكر مولانا شيخ الإسلام أن الموجب الأصلي للجناية والجزاء المماثل للمقتول إنما هو قيمته لكن لا باعتبار أن الجاني يعمد إليها فيصرفها إلى المصارف ابتداء بل باعتبار أن يجعلها معيارا فيقدر بها إحدى الخصال الثلاث فيقيمها مقامها فقوله تعالى: * (مثل ما قتل) * وصف لازم للجزاء غير مفارق عنه بحال. وأما قوله سبحانه * (من النعم) * فوصف له معتبر في ثاني الحال بناء على وصفه الأول الذي هو المعيار له ولما بعده من الطعام والصيام فحقهما أن يعطفا على الوصف المفارق لا على الوصف اللازم فضلا عن العطف على الموصوف كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومما يرشد إلى أن المراد بالمثل هو القيمة قوله عز وجل: * (يحكم به) * أي بمثل ما قتل * (ذوا عدل منكم) * أي حكمان عدلان من المسلمين لأن التقويم هو الذي يحتاج إلى النظر والاجتهاد دون المماثلة في الصورة التي يستوي في معرفتها كل أحد من الناس. وهذا ظاهر الورود على ظاهر قول محمد. وقد يقال: إن هذه الجملة مرشدة إلى ما قلنا أيضا على رأي من يجعل مدار المماثلة بين الصيد والنعم المشاكلة والمضاهاة في بعض الأوصاف والهيآت مع تحقق التباين بينهما في بقية الأحوال فإن ذلك مما لا يهتدي إليه من أساطين أئمة الاجتهاد وصناديد أهل الهداية والرشاد إلا المؤيدون بالقوة القدسية. ألا يرى أن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه ومن أسلفنا ذكره أوجبوا في قتل الحمامة شاة بناء على ما أثبت بينهما من المماثلة في العب والهدير مع أن النسبة بينهما من سائر الحيثيات كما بين الضب والنون بل السمك والسماك فكيف يفوض معرفة هذه الدقائق العويصة إلى رأي عدلين من آحاد الناس على أن الحكم بهذا المعنى إنما يتعلق بالأنواع لا بالأشخاص فبعد ما عين بمقابلة كل نوع من أنواع الصيد نوع من أنواع النعم يتم الحكم ولا يبقى عند وقوع خصوصيات الحوادث حاجة إلى حكم أصلا.
وقرأ محمد بن جعفر * (ذو عدل) * وخرجها ابن جني على إرادة الإمام، وقيل: إن (ذو) تستعمل استعمال من للتقليل والتكثير، وليس المراد بها هنا الوحدة بل التعدد ويراد منه إثنان لأنه أقل مراتبه، وفي " الهداية " " قالوا: والعدل الواحد يكفي والمثنى أولى لأنه أحوط وأبعد من الغلط "، وعلى هذا لا حاجة إلى حمل (ذو) على المتعدد ولا على الإمام بل المراد منها الواحد إماما كان أو غيره، ومن اشترط الإثنين حمل العدد في الآية على القراءة المتواترة على الأولوية، والجملة صفة لجزاء أو حال من الضمير المستتر في خبره المقدر، وقيل: حال منه لتخصيصه بالصفة، وجوز ابن الهمام على قراءة رفع (جزاء) وإضافته أن تكون صفة لمثل كما أن تكون صفة لجزاء لأن مثلا لا تتعرف بالإضافة فجاز وصفها ووصف ما أضيف إليها بالجملة.
وقوله تعالى: * (هديا) * حال مقدرة من الضمير في * (به) * كما قال الفارسي أو من (جزاء) بناء على أنه خبر أو منه على تقدير كونه مبتدأ في رأي أو بدل من * (مثل) * فيمن نصبه أو من محله فيمن جره أو نصب على المصدر أي يهديه هديا والجملة صفة أخرى لجزاء * (بالغ الكعبة) * صفة لهديا لأن إضافته لفظية * (أو كفارة) * عطف على محل * (من النعم) * على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة صفة لجزاء على ما اختاره شيخ الإسلام. وقوله تعالى: * (طعام مساكين) * عطف بيان لكفارة عند من يراه كالفارسي في النكرات أو بدل منه أو خبر مبتدأ محذوف أي هي طعام مساكين.