منزه عن النسيان لقوله تعالى: * (سنقرئك فلا تنسى) * (الأعلى: 6) وأن غيرهم ذهب إلى جوازه وعلى نسبة الأول إليهم نص صاحب " الأحكام " والجبائي وغيرهما. وقال الأخير: إن الآية دليل على بطلان قولهم ذلك. والذي وقفت عليه في معتبرات كتبهم أنهم لا يجوزون النسيان، وكذا السهو على النبي صلى الله عليه وسلم وكذا على سائر الأنبياء عليهم السلام فيما يؤديه عن الله تعالى من القرآن والوحي، وأما ما سوى ذلك فيجوزون عليه عليه الصلاة والسلام أن ينساه ما لم يؤد إلى إخلال الدين.
وأنا أرى أن محل الخلاف النسيان الذي لا يكون منشؤه اشتغال السر بالوساوس والخطرات الشيطانية فإن ذلك مما لا يرتاب مؤمن في استحالته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفصيل الكلام في ذلك على ما في معتبرات كتبنا أن مذهب جمهور العلماء جواز النسيان عليه صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع وهو ظاهر القرآن والأحاديث لكن اتفقوا على أنه عليه الصلاة والسلام لا يقر عليه بل يعلمه الله تعالى به، ثم قال الأكثرون يشترط تنبهه عليه الصلاة والسلام على الفور متصلا بالحادثة ولا يقع فيه تأخير، وجوزت طائفة تأخيره مدة حياته صلى الله عليه وسلم واختاره إمام الحرمين، ومنعت ذلك طائفة من العلماء في الأفعال البلاغية والعبادات كما أجمعوا على منعه واستحالته عليه صلى الله عليه وسلم في الأقوال البلاغية، وأجابوا عن الظواهر الواردة في ذلك. وإليه مال الأستاذ أبو إسحق الإسفرائيني، وصحح النووي الأول فإن ذلك لا ينافي النبوة، وإذا لم يقر عليه لم يتحصل منه مفسدة ولا ينافي الأمر بالاتباع بل يحصل منه فائدة وهو بيان أحكام الناسي وتقرر الأحكام.
وذكر القاضي أنهم اختلفوا في جواز السهو عليه صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق بالبلاغ وبيان أحكام الشرع من أفعاله وعاداته وأذكار قلبه فجوزه الجمهور. وأما السهو في الأقوال البلاغية فأجمعوا على منعه كما أجمعوا على امتناع تعمده، وأما السهو في الأقوال الدنيوية وفيما ليس سبيله البلاغ من الكلام الذي لا يتعلق بالأحكام ولا أخبار القيامة وما يتعلق بها ولا يضاف إلى وحي فيجوزه قوم إذ لا مفسدة فيه، ثم قال: والحق الذي لا شك فيه ترجيح قول من قال: يمتنع ذلك على الأنبياء عليهم السلام في كل خبر من الأخبار كما لا يجوز عليهم خلف في خبر لا عمدا ولا سهوا لا في صحة ولا مرض ولا رضى ولا غضب، وحسبك في ذلك أن سيره صلى الله عليه وسلم وكلامه وأفعاله مجموعة يعتنى بها على مر الزمان ويتناولها الموافق والمخالف والمؤمن والمرتاب فلم يأت في شيء منها استدراك غلط في قول ولا اعتراف بوهم في كلمة ولو كان لنقل كما نقل سهوه في الصلاة ونومه عليه الصلاة والسلام عنها واستدراكه رأيه في تلقيح النخل وفي نزوله بأدنى مياه بدر إلى غير ذلك. وأما جواز السهو في الاعتقادات في أمور الدنيا فغير ممتنع. وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمة الكلام على هذا المبحث عند تفسير قوله تعالى: * (وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته) * الآية. وقرأ ابن عامر * (ينسينك) * بتشديد السين ونسي بمعنى أنسى، وقال ابن عطية: نسي أبلغ من أنسى والنون في القراءتين مشددة وهي نون التوكيد، والمشهور أنها لازمة في الفعل الواقع بعد أن الشرطية المصحوبة بما الزائدة، وقيل: لا يلزم فيه ذلك، وعليه قول ابن دريد: أما ترى رأسي حاكي لونه $ طرة صبح تحت أذيال الدجى * (فلا تقعد بعد الذكرى) * أي بعد تذكر الأمر بالإعراض كما عليه جمهور المفسرين. وقال