واتخذت بذلك على دعوى العلم ساعدا وعضدا، وها له نحو عامين ما حلاه أحد بحرف، ولا رمقه ناظر بطرف ولا أودعه ذو ظرف بظرف، ولو شئت أنا لكتبت عليه عدة مؤلفات ولسطرت فيه خمس مصنفات، بسيط حريز، ووسيط غريز، ومختصر وجيز، ومنظومة ذات تطريز، ومقامة إنشاء كأنها ذهب إبريز انتهى كلامه.
وأقول: لعل الفرق أنه سبحانه لما ذكر * (أمهاتكم) * في هذه الآية معطوفا على ما تقدم في الآية السابقة وفيها تحريم الأمهات بقي الذهن مشرئبا إلى بيان الفارق بين هذه الأمهات وتلك الأمهات فأتى سبحانه بقوله: * (اللاتي أرضعنكم) * بيانا لذلك دافعا لتوهم التكرار فكان قيد الإرضاع الواقع صلة معتنا به أتم اعتناء، ومما يترتب على هذا الاعتناء اعتباره أينما لوحظ، وقد لوحظ في الآية خمس مرات الأولى: حين أتى به فعلا، والثانية: حين أسند إلى الفاعل أعني ضمير النسوة، والثالثة: حين تعلق بالمفعول أعني ضمير المخاطبين، والرابعة: حين جعل جزء الجملة الواقعة صلة الموصول، والخامسة: حين جعل اللاتي صفة أمهاتكم لأن وصفيته لها باعتبار الصلة بلا شبهة فهذه خمس ملاحظات للإرضاع في هذا التركيب تشير إلى أن ما به تحصل الأمومة خمس رضعات، وهذا أحد الأسرار لاختيار هذا التركيب مع إمكان تراكيب غيره لعل بعضها أخصر منه، وكثيرا ما وقع في القرآن تراكيب وتعبيرات يشار بها إلى أمور واقعية بينها وبين ما في تلك التعبيرات مناسبة مثل ما وقع في قوله تعالى: * (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) * (البقرة: 228) من الاحتباك المشير إلى ما بين الزوجين من الائتلاف، وما وقع في قوله تعالى: * (أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه) * (البقرة: 282) من الإدغام في يمل المشير إلى حال الفاعل وهو الأخرس المعقود اللسان في كثير من الأقوال، وما وقع في قوله تعالى: * (كل في فلك) * (الأنبياء: 33) من عدم الاستحالة بالانعكاس المشير إلى كرية الأفلاك في رأي إلى غير ذلك مما لا يحصى كثرة. وليس هذا من باب الاستدلال بل من باب الإشارة المقوية له، ألا ترى أنه لم يستدل أحد ممن ذهب إلى اشتراط الخمس بهذه الآية ولكن استدلوا عليه بورود الخمس في الأخبار، وإلى ذلك تشير عبارة الجلال السيوطي رحمه الله تعالى، وهذه الإشارة مفقودة في القول المفروض أعني واللاتي أرضعنكم أمهاتكم، لأن العطف فيه لا يوهم التكرار لعدم تقدم نظيره فلا يشرأب الذهن إلى ما يذكر بعد كما اشرأب فيما ذكر قبل، فلا داعي لاعتباره أينما لوحظ كما كان كذلك هناك بل يكفي اعتباره مرة واحدة وهي أدنى ما تتحقق به الماهية لا سيما وقد ذكر بعد أمهاتكم على أنه بدل والبدل كما قالوا: هو المقصود بالنسبة على نية تكرار العامل المفيد لتقرير معنى الكلام وتوكيده، وهذا التوكيد أيضا مشعر بوحدة الإرضاع لأن التحريم بالرضعة الواحدة مما يكاد يستبعد فيحتاج إلى توكيده بخلاف الرضعات العديدة.
وقد رأيت في بعض نسخ " شرح صحيح مسلم " للإمام النووي بعد ذكر استدلال الإمام مالك رضي الله تعالى عنه على دعوى ثبوت الحرمة برضعة واحدة بقوله تعالى: * (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم) * حيث لم يذكر عددا ما نصه: " واعترض أصحاب الشافعي على المالكية فقالوا: إنما كانت تحصل الدلالة لكم لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم أمهاتكم " انتهى، ولم يصرح رحمه الله تعالى بأن الآية التي استدل بها المالكية مشعرة بالخمس بل اقتصر على أن الدلالة على الواحدة لا تحصل بها وأراد أن ما أشرنا إليه من الإشعار القوي إلى التعدد يأبى حمل الماهية على أقل ما تتحقق فيه، وفي بعض نسخ ذلك الشرح - واعترض أصحاب الشافعي على المالكية - فقالوا: إنما كانت تحصل لكم الدلالة لو كانت الآية واللاتي أرضعنكم وأمهاتكم بواو بين أرضعنكم وبين أمهاتكم والظاهر أنها غلط من الناسخ، والتزام توجيهها تعسف رأينا تركه ربحا.