تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١٨٧
على باب الجنة أربعين سنة لم تنفخ فيه الروح؛ والتعبير بالمضارع مع أن المقام مقام المضي لتصوير ذلك الأمر الكامل بصورة المشاهد الذي يقع الآن إيذانا بأنه من الأمور المستغربة العجيبة الشأن، وجوز أن يكون التعبير بذلك لما أن الكون مستقبل بالنظر إلى ما قبله، وذهب كثير من المحققين إلى أن * (ثم) * للتراخي في الأخبار لا في المخبر به، وحملوا الكلام على ظاهره، ولا يضر تقدم القول على الخلق في هذا الترتيب والتراخي - كما لا يخفى، والضمير المجرور عائد على ما عاد عليه الضمير المنصوب، والقول - بأنه عائد على عيسى - ليس بشيء لما فيه من التفكيك الذي لا داعي إليه ولا قرينة تدل عليه، قيل: وفي الآية دلالة على صحة النظر والاستدلال لأنه سبحانه احتج على النصارى وأثبت جواز خلق عيسى عليه السلام من غير أب بخلق آدم عليه السلام من غير أب ولا أم، ثم إن الظاهر أن عيسى عليه السلام خلقه الله سبحانه من نطفة مريم عليها السلام بجعلها قابلة لذلك ومستعدة له كما أشرنا إليه فيما تقدم. والقول - بأنه خلق من الهواء كما خلق آدم من التراب - مما لا مستند له من عقل ولا نقل * (فنفخنا فيه من روحنا) * (الأنبياء: 91) لا يدل عليه بوجه أصلا.
* (الحق من ربك فلا تكن من الممترين) *.
* (الحق من ربك) * خبر لمحذوف أي هو الحق، وهو راجع إلى البيان، والقصص المذكور سابقا. والجار والمجرور حال من الضمير في الخبر، وجوز أن يكون * (الحق) * مبتدأ، و * (من ربك) * خبره، ورجح الأول بأن المقصود الدلالة على كون عيسى مخلوقا كآدم عليهما السلام هو * (الحق) * لا ما يزعمه النصارى، وتطبيق كونهما مبتدأ وخبرا على هذا المعنى لا يتأتي إلا بتكلف إرادة أن كل حق، أو جنسه من الله تعالى، ومن جملته هذا الشأن، أو حمل اللام على العهد بإرادة * (الحق) * المذكور، ولا يخفى ما في التعرض لعنوان الربوبية من الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم من اللطافة الظاهرة * (فلا تكن من الممترين) * خطاب له صلى الله عليه وسلم، ولا يضر فيه استحالة وقوع الامتراء منه عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: * (ولا تكونن من المشركين) * (يونس: 105) بل قد ذكروا في هذا الأسلوب فائدتين. إحداهما: أنه صلى الله عليه وسلم إذا سمع مثل هذا الخطاب تحركت منه الأريحية فيزداد في الثبات على اليقين نورا على نور وثانيتهما: أن السامع يتنبه بهذا الخطاب على أمر عظيم فينزع وينزجر عما يورث الامتراء لأنه صلى الله عليه وسلم مع جلالته التي لا تصل إليها الأماني إذا خوطب بمثله فما يظن بغيره ففي ذلك زيادة ثبات له صلوات الله تعالى وسلامه عليه ولطفه بغيره، وجوز أن يكون خطابا لكل من يقف عليه ويصلح للخطاب.
* (فمن حآجك فيه من بعد ما جآءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنآءنا وأبنآءكم ونسآءنا ونسآءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الك‍اذبين) *.
* (فمن حآجك) * أي جادلك وخاصمك من وفد نصارى نجران إذ هم المتصدون لذلك * (فيه) * أي في شأن عيسى عليه السلام لأنه المحدث عنه وصاحب القصة، وقيل: الضمير للحق المتقدم لقربه وعدم بعد المعنى * (من بعد ما جاءك من العلم) * أي الآيات الموجبة للعلم، وإطلاق العلم عليها إما حقيقة لأنها كما قيل: نوع منه، وإما مجاز مرسل، والقرينة عليه ذكر المحاجة المقتضية للأدلة، والجار والمجرور الأخير حال من فاعل * (جاءك) * الراجع إلى * (ما) * الموصولة، و * (من) * من ذلك تبعيضية، وقيل: لبيان الجنس * (فقل) * أي - لمن حاجك - * (تعالوا) * أي أقبلوا بالرأي والعزيمة، وأصله طلب الإقبال إلى مكان مرتفع، ثم توسع فيه فاستعمل في مجرد طلب المجيء * (ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم) * أي يدع كل منا ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه للمباهلة، وفي تقديم من قدم على النفس في المباهلة مع أنها من مظان
(١٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 182 183 184 185 186 187 188 189 190 191 192 ... » »»