تفسير الآلوسي - الآلوسي - ج ٣ - الصفحة ١٨٣
الله تعالى، والقول - بأن المطلوب قد ثبت بالتواتر أنه بقي حيا زمانا طويلا فلولا أنه كان عيسى لأظهر الجزع وعرف نفسه ولو فعل ذلك لاشتهر وتواتر - ليس بشيء أيضا، أما أولا: فلأن دعوى تواتر بقاء المصلوب حيا زمانا طويلا مما لم يثبتها برهان والثابت أن المصلوب إنما صلب في الساعة الثانية من يوم الجمعة ومات في الساعة السادسة من ذلك اليوم وأنزل ودفن، ومقدار أربع ساعات لا يعد زمانا طويلا كما لا يخفى، وأما ثانيا: فلأن عدم تعريف المصلوب نفسه إما لأنه أدركته دهشة منعته من البيان والإيضاح، أو لأن الله تعالى أخذ على لسانه لم يستطع أن يخبر عن نفسه صونا لنبيه عليه السلام أن يفصح الرجل عن أمره، أو لأنه لصديقيته آثر المسيح بنفسه وفعل ذلك بعهد عهده إليه رغبة في الشهادة، ولهذا ورى في الجواب الذي نقلته النصارى في القصة وقد وعد المسيح عليه السلام التلاميذ - على ما نقلوا قبل - بقولهم لو دفعنا إلى الموت معك لمتنا والشبه من جملتهم فوفى بما وعد من نفسه على عادة الصديقين من أصحاب الأنبياء عليهم السلام فهو من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ومن ذهب إلى أن الشبه كان من الأعداء لا من الأولياء روى أنه جعل يقول لليهود عند الصلب: لست المسيح وإنما أنا صاحبكم لكنه لم يسمع ولم يلتفت إلى قوله وصلبوه، والقول - بأنه لو كان ذلك لتواتر - لا يخفى ما فيه لمن أحاط بما ذكرناه خبرا فتأمل.
* (ومطهرك من الذين كفروا) * يحتمل أن يكون تطهيره عليه السلام بتبعيده منهم بالرفع، ويحتمل أن يكون بنجاته مما قصدوا فعله به من القتل، وفي الأول: جعلهم كأنهم نجاسة، وفي الثاني: جعل فعلهم كذلك والأول هو الظاهر - وإلى الثاني ذهب الجبائي -. والمراد من الموصول اليهود، وأتى بالظاهر - على ما قيل - دون الضمير: إشارة إلى علة النجاسة وهي الكفر. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن أن المراد من الموصول اليهود والنصارى والمجوس وكفار قومه.
* (وجاعل الذين اتبعوك) * قال قتادة والحسن وابن جريج وخلق كثير: هم أهل الإسلام اتبعوه على ملته وفطرته من أمة محمد صلى الله عليه وسلم * (فوق الذين كفروا) * وهم اليهود أو سائر من شمله هذا المفهوم فإن المؤمنين يعلونهم بالحجة، أو السيف في غالب الأمر. وأخرج ابن جرير عن ابن زيد أن المراد من الموصول الأول النصارى، ومن الثاني اليهود وقد جعل سبحانه النصارى فوق اليهود فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق اليهود في شرق الدنيا وغربها، وعلى هذا يكون المراد من الأتباع مجرد الادعاء والمحبة ولا يضر في غلبتهم على اليهود غلبة المسلمين عليهم، وإذا أريد بالأتباع ما يشمل أتباع المسلمين، وهذا الاتباع يصح أن يراد بالمتبعين ما يشمل المسلمين والنصارى مطلقا من آمن به قبل مجىء نبينا صلى الله عليه وسلم ونسخ شريعته، ومن آمن بزعمه بعد ذلك - وقد يراد من الأتباع - الأتباع بالمعنى الأول فيجوز أن يراد من المتبعين المسلمون، والقسم الأول: من النصارى، وتخصيص المتبعين بهذه الأمة - وحمل الأتباع على المجىء بعد - مما لا ينبغي أن يخرج عليه الكتاب الكريم كجعل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأن الوقف على * (الذين كفروا) * * (إلى يوم القي‍امة) * متعلق بالجعل أو بالاستقرار المقدر في الظرف، وليس المراد أن ذلك ينتهي حينئذ ويتخلص الذين كفروا من الذلة بل المراد أن المتبعين يعلونهم إلى تلك الغاية فأما بعدها فيفعل الله تعالى ما يريد. ومن الناس من حمل الفوقية - على العلو الرتبي والفوقية بحسب الشرف وجعل التقييد بيوم القيامة للتأييد
(١٨٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 178 179 180 181 182 183 184 185 186 187 188 ... » »»