تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٩٧
بإضمار رب، وهذا فيه غرابة، لأن رب لم تأت في القرآن جارة، مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب، فكيف يؤتى بها مضمرة؟ وإنما يظهر أن * (وأخرى) * مرفوع بالابتداء، فقد وصفت بالجملة بعدها، وقد أحاط هو الخبر. ويجوز أن تكون في موضع نصب بمضمر يفسره معنى * (قد أحاط الله بها) *: أي وقضى الله أخرى. وقد ذكر الزمخشري هذين الوجهين ومعنى * (قد أحاط الله بها) * بالقدرة والقهر لأهلها، أي قد سبق في علمه ذلك، وظهر فيها أنهم لم يقدروا عليها.
* (ولو قاتلكم الذين كفروا) *: هذا ينبني على الخلاف في قوله تعالى: * (وكف أيدى الناس عنكم) *، أهم مشركو مكة، أو ناصروا أهل خيبر، أو اليهود؟ * (لولوا الادبار) *: أي لغلبوا وانهزموا. * (سنة الله) *: في موضع المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله، أي سن الله عليه أنبياءه سنة، وهو قوله: * (لاغلبن أنا ورسلى) *. * (وهو الذى كف أيديهم) *: أي قضى بينكم المكافة والمحاجزة، بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة. وروي في سببها أن قريشا جمعت جماعة من فتيانها، وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل، وخرجوا يطلبون غرة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم). فلما أحس بهم المسلمون، بعث عليه الصلاة والسلام خالد بن الوليد، وسماه حينئذ سيف الله، في جملة من الناس، ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة، وأسروا منهم جملة، وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم)، فمن عليهم وأطلقهم. وقال قتادة: كان ذلك بالحديبية عند معسكر، وهو ببطن مكة. وعن أنس: هبط ثمانون رجلا من أهل مكة على رسول الله صلى الله عليه وسلم) من جبل التنعيم مسلحين يريدون غرته، فأخذناهم فاستحياهم. وفي حديث عبد الله بن معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم) دعا عليهم، فأخذ الله أبصارهم، فقال لهم: (هل جئتم في عهد؟ وهل جعل لكم أحد أمانا)؟ قالوا: اللهم لا، فخلي سبيلهم. وقال الزمخشري كان يعني هذا الكف يوم الفتح، وبه استشهد أبو حنيفة، على أن مكة فتحت عنوة لا صلحا. وقيل: كان ذلك في غزوة الحديبية، لما روي أن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم) من هزمه وأدخله حيطان مكة. وعن ابن عباس: أظهر الله المسلمين عليهم بالحجارة حتى أدخلوهم البيوت. انتهى. وقرأ الجمهور: بما تعملون، على الخطاب؛ وأبو عمرو: بالياء، وهو تهديد للكفار.
* (هم الذين كفروا) *: يعني أهل مكة. قال ابن خالوية: يقال الهدي والهدى والهداء، ثلاث لغات. انتهى. وقرأ الجمهور: الهدي، بسكون الدال، وهي لغة قريش؛ وابن هرمز، والحسن، وعصمة عن عاصم، واللؤلؤي، وخارجة عن أبي عمرو: والهدي، بكسر الدال وتشديد الياء، وهما لغتان، وهو معطوف على الضمير في صدوكم؛ ومعكوفا: حال، أي محبوسا. عكفت الرجل عن حاجته: حبسته عنها. وأنكر أبو علي تعدية عكف، وحكاه ابن سيدة والأزهري وغيرهما. وهذا الحبس يجوز أن يكون من المشركين بصدهم، أو من جهة المسلمين لترددهم ونظرهم في أمرهم. وقرأ الجعفي، عن أبي عمرو: والهدي، بالجر معطوفا على المسجد الحرام: أي وعن نحر الهدي. وقرأ: بالرفع على إضمار وصد الهدي، وكان خرج عليه ومعه مائة بدنة، قاله مقاتل. وقيل: بسبعين، وكان الناس سبعمائة رجل، فكانت البدنة عن عشرة، قاله المسور بن مخرمة وأبي بن الحكم.
* (أن يبلغ محله) *، قال الشافعي: الحرم، وبه استدل أبو حنيفة أن محل هدي المحصر الحرم، لا حيث أحصر. وقال الفراء: حيث يحل نحره، و * (أن يبلغ) *: يحتمل أن يتعلق بالصد، أي وصدوا الهدى، وذلك على أن يكون بدل اشتمال، أي وصدوا بلوغ الهدي محله، أو على أنه مفعول من أجله، أي كراهة أن يبلغ محله. ويحتمل أن يتعلق بمعكوفا، أي محبوسا لأجل أن يبلغ محله، فيكون مفعولا من أجله، ويكون الحبس من المسلمين. أو محبوسا عن أن يبلغ محله، فيكون الحبس من المشركين، وكان بمكة قوم من المسلمين مختلطين بالمشركين، غير متميزين عنهم، ولا معروفي الأماكن؛ فقال تعالى: ولولا كراهة أن يهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين لهم، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه ومشقة، ما كف أيديكم عنهم؛ وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون: * (لو تزيلوا) *، كالتكرير للولا رجال مؤمنون، لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون: * (لعذبنا) *، هو الجواب. انتهى. وقوله: لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح، لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية. فالمعنى في الأولى: ولولا وطء قوم مؤمنين، والمعنى في
(٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 102 ... » »»