تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٠٠
* (صدق الله) *: لم يكذبه، والله تعالى منزه عن الكذب وعن كل قبيح. وصدق يتعدى إلى اثنين، الثاني بنفسه وبحرف الجر. تقول: صدقت زيدا الحديث، وصدقته في الحديث؛ وقد عدها بعضهم في أخوات استغفر وأمر. وقال الزمخشري: فحذف الجار وأوصل الفعل لقوله تعالى: * (صدقوا ما عاهدوا الله عليه) *. انتهى. فدل كلامه على أن أصله حرف الجر. وبالحق متعلق بمحذوف، أي صدقا ملتبسا بالحق. * (لتدخلن) *: اللام جواب قسم محذوف، ويبعد قول من جعله جواب بالحق؛ وبالحق قسم لا تعلق له بصدق، وتعليقه على المشيئة، قيل: لأنه حكاية قول الملك للرسول صلى الله عليه وسلم)، قاله ابن كيسان. وقيل: هذا التعليق تأدب بآداب الله تعالى، وإن كان الموعود به متحقق الوقوع، حيث قال تعالى: * (ولا تقولن لشىء إنى فاعل ذالك غدا * إلا أن يشاء الله) *. وقال ثعلب: استثنى فيما يعلم ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون. وقال الحسن بن الفضل: كأن الله علم أن بعض الذين كانوا بالحديبية يموت، فوقع الاستثناء لهذا المعنى. وقال أبو عبيدة: وقوم إن بمعنى إذ، كما قيل في قوله: * (وإنا إن شاء الله * بكم) *. وقيل: هو تعليق في قوله: * (الله ءامنين) *، لا لأجل إعلامه بالدخول، فالتعليق مقدم على موضعه. وهذا القول لا يخرج التعليق عن كونه معلقا على واجب، لأن الدخول والأمن أخبر بهما تعالى، ووقعت الثقة بالأمرين وهما الدخول والأمن الذي هو قيد في الدخول. و * (ءامنين) *: حال مقارنة للدخول. ومحلقين ومقصرين: حال مقدرة؛ ولا تخافون: بيان لكمال الأمن بعد تمام الحج.
ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما يستأنف، واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه الصلاة والسلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم).
* (فعلم ما لم تعلموا) *: أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة، ودخول الناس فيه، وما كان أيضا بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم، قاله ابن عطية. وقال الزمخشري: فعلم ما لم تعلموا من الحكمة والصواب في تأخير فتح مكة إلى العام القابل. انتهى. ولم يكن فتح مكة في العالم القابل، إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام، لأن الفتح إنما كان ثمان من الهجرة. * (فجعل من دون ذلك) *: أي من قبل ذلك، أي من زمان دون ذلك الزمان الذي وعدوا فيه بالدخول. فتحا قريبا، قال كثير من الصحابة: هذا الفتح القريب هو بيعة الرضوان. وقال مجاهد وابن إسحاق: هو فتح الحديبية. وقال ابن زيد: خيبر، وضعف قول من قال إنه فتح مكة، لأن فتح مكة لم يكن دون دخول الرسول صلى الله عليه وسلم) وأصحابه مكة، بل كان بعد ذلك.
* (هو الذي أرسل رسوله) *: فيه تأكيد لصدق رؤياه صلى الله عليه وسلم)، وتبشير بفتح مكة لقوله تعالى: * (ليظهره على الدين كله) *، وتقدم الكلام على معظم هذه الآية. * (وكفى بالله شهيدا) * على أن ما وعده كائن. وعن الحسن: شهيدا على نفسه أنه سيظهر دينك. والظاهر أن قوله: * (محمد رسول الله) * مبتدأ وخبر. وقيل: رسوله الله صفة. وقال الزمخشري: عطف بيان، * (والذين) * معطوف، والخبر عنه وعنهم أشداء. وأجاز الزمخشري أن يكون محمد خبر مبتدأ محذوف، أي هو محمد، لتقدم قوله: * (هو الذي أرسل رسوله) *. وقرأ ابن عامر في رواية: رسوله الله بالنصب على المدح، والذين معه هم من شهد الحديبية، قاله ابن عباس. وقال الجمهور: جميع أصحابه أشداء، جمع شديد، كقوله: * (أعزة على الكافرين) *. * (رحماء بينهم) *، كقوله: * (أذلة على المؤمنين) *، وكقوله: * (واغلظ عليهم) *، وقوله: * (بالمؤمنين رءوف رحيم) *. وقرأ الحسن: أشداء رحماء بنصبهما. قيل: على المدح، وقيل: على الحال، والعامل فيهما العامل في معه، ويكون الخبر عن المتبدأ المتقدم: تراهم. وقرأ يحيى بن يعمر: أشدا، بالقصر، وهي شاذة، لأن قصر الممدود إنما يكون في الشعر، نحو قوله:
* لا بد من صنعا وإن طال السفر وفي قوله: * (تراهم ركعا سجدا) * دليل على كثرة ذلك منهم. وقرأ عمرو بن عبيد: ورضوانا، بضم الراء. وقرئ: سيمياهم، بزيادة ياء والمد، وهي لغة فصيحة كثيرة في الشعر، قال الشاعر:
*
(١٠٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 95 96 97 98 99 100 101 102 103 104 105 ... » »»