تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٧٧
خبر المبتدأ وتقديره: فتعسهم الله تعسا. فتعسا: منصوب بفعل مضمر، ولذلك عطف عليه الفعل في قوله: * (وأضل أعمالهم) *. ويجوز أن يكون الذين منصوبا على إضمار فعل يفسره قوله: * (فتعسا لهم) *، كما تقول: زيدا جدعا له. وقال الزمخشري: فإن قلت: على م عطف قوله: وأضل أعمالهم؟ قلت: على الفعل الذي نصب تعسا، لأن المعنى: فقال تعسا لهم، أو فقضى تعسا لهم؛ وتعسا لهم نقيض لعى له. انتهى. وإضمار ما هو من لفظ المصدر أولى، لأن فيه دلالة على ما حذف. وقال ابن عباس: يريد في الدنيا القتل، وفي الآخرة التردي في النار. انتهى. وفي قوله: * (فتعسا لهم) *: أي هلاكا بأداة تقوية لقلوب المؤمنين، إذ جعل لهم التثبيت، وللكفار الهلاك والعثرة.
* (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله) *: يشمل ما أنزل من القرآن في بيان التوحيد، وذكر البعث والفرائض والحدود، وغير ذلك مما تضمنه القرآن. * (فأحبط أعمالهم) *: أي جعلها من الأعمال التي لا تزكوا ولا يعتد بها. * (دمر الله عليهم) *: أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وكل ما كان لهم وللكافرين أمثالها. تلك العاقبة والتدميرة التي يدل عليها دمر والهلكة، لأن التدمير يدل عليها، أو السنة، لقوله عز وجل: * (سنة الله فى الذين خلوا) *. والوجه الأول هو الراجح، لأن العاقبة منطوق بها، فعاد الضمير على الملفوظ به، وما بعده مقول القول. * (ذلك بأن) *: ابتداء وخبر، والإشارة بذلك إلى النصر في اختيار جماعة، وإلى الهلاك، كما قال: * (وللكافرين أمثالها) *، قال ذلك الهلاك الذي جعل للكفار بأيدي المؤمنين بسبب * (إن الله * مولاهم) *: أي ناصرهم ومؤيدهم، وأن الكافرين لا ناصر لهم، إذ اتخذوا آلهة لا تنفع ولا تضر، وتركوا عبادة من ينفع ويضر، وهو الله تعالى.
قال قتادة: نزلت هذه الآية يوم أحد، ومنها انتزع رسول الله صلى الله عليه وسلم) رده على أبي سفيان حين قال: (قولوا الله مولانا ولا مولى لكم)، حين قال المشركون: إن لنا عزى، ولا عزى لكم.
* (إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الانهار والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الانعام) *.
* (يتمتعون) *: أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل، * (ويأكلون) *، غافلين غير مفكرين في العاقبة، * (كما تأكل الانعام) * في مسارحها ومعالفها، غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح. والكاف في موضع نصب، إما على الحال من ضمير المصدر، كما يقول سيبويه، أي يأكلونه، أي الأكل مشبها أكل الأنعام. والمعنى: أن أكلهم مجرد من الفكر والنظر، كما يقال للجاهل: يعيش كما يعيش البهيمة، لا يريد التشبيه في مطلق العيش، ولكن في لازمه. * (والنار مثوى لهم) *: أي موضع إقامة. ثم ضرب تعالى مثلا لمكة والقرى المهلكة على عظمها، كقرية عاد وغيرهم، والمراد أهلها، وأسند الإخراج إليها مجازا. والمعنى: كانوا سبب خروجك، وذلك وقت هجرته عليه السلام إلى المدينة. وكما جاء في حديث ورقة بن نوفل: يا ليتني فيها جذعا إذ يخرجك قومك، قال: أو مخرجي هم. وقال ابن عطية: ونسب الإخراج إلى القرية حملا على اللفظ
(٧٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 ... » »»