تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٥٠٦
هذا من العلم اللدني علم الخضر، حتى أن من ينتمي إلى العلم لما رأى رواج هذه الطائفة سلك مسلكهم ونقل كثيرا من حكاياتهم ومزج ذلك بيسير من العلم طلبا للمال والجاه وتقبيل اليد؛ ونحن نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لطاعته.
وقرأ الجمهور: ألهاكم على الخبر؛ وابن عباس وعائشة ومعاية وأبو عمروان الجوني وأبو صالح ومالك بن دينار وأبو الجوزاء وجماعة: بالمد على الاستفهام، وقد روي كذلك عن الكلبي ويعقوب، وعن أبي بكر الصديق وابن عباس أيضا والشعبي وأبي العالية وابن أبي عبلة والكسائي في رواية: أألهاكم بهمزتين، ومعنى الاستفهام: التوبيخ والتقرير على قبح فعلهم؛ والجمهور: على أن التكرير توكيد. قال الزمخشري: والتكرير تأكيد للرع والإنذار؛ وثم دلالة على أن الإنذار الثاني أبلغ من الأول وأشد، كما تقول للمنصوح: أقول لك ثم أقول لك لا تفعل، والمعنى: سوف تعلمون الخطاب فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه: * (كلا سوف تعلمون * فى القبور * ثم كلا سوف تعلمون) * في البعث: غاير بينهما بحسب التعلق، وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان. وقال الضحاك: الزجر الأول ووعيده للكافرين، والثاني للمؤمنين. * (كلا لو تعلمون) *: أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه، * (علم اليقين) *: أي كعلم ما تستيقنونه من الأمور لما ألهاكم التكاثر أو العلم اليقين، فأضاف الموصوف إلى صفته وحذف الجواب لدلالة ما قبله عليه وهو * (ألهاكم التكاثر) *. وقيل: اليقين هنا الموت. وقال قتادة: البعث، لأنه إذا جاء زال الشك. ثم قال: * (لترون الجحيم) *: والظاهر أن هذه الرؤية هي رؤية الورود، كما قال تعالى: * (وإن منكم إلا واردها) *، ولا تكون رؤية عند الدخول، فيكون الخطاب للكفار لأنه قال بعد ذلك: * (ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم) *.
* (ثم لترونها عين اليقين) *: تأكيد للجملة التي قبلها، وزاد التوكيد بقوله: * (عين اليقين) * نفيا لتوهم المجاز في الرؤية الأولى. وعن ابن عباس: هو خطاب للمشركين، فالرؤية رؤية دخول. وقرأ ابن عامر والكسائي: لترون بضم التاء؛ وباقي السبعة: بالفتح، وعلي وابن كثير في رواية، وعاصم في رواية: بفتحها في * (لترون) *، وضمها في * (لترونها) *، ومجاهد والأشهب وابن أبي عبلة: بضمها. وروي عن الحسن وأبي عمرو بخلاف عنهما أنهما همز الواوين، استثقلوا الضمة على الواو فهمزوا كما همزوا في وقتت، وكان القياس أن لا تهمز، لأنها حركة عارضة لالتقاء الساكنين فلا يعتد بها. لكنها لما تمكنت من الكلمة بحيث لا تزول أشبهت الحركة الأصلية فهمزوا، وقد همزوا من الحركة العارضة ما يزول في الوقف نحو استرؤا الصلاة، فهمز هذه أولى.
* (ثم لتسئلن يومئذ عن النعيم) *: الظاهر العموم في النعيم، وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب، فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف، والكافر سؤال توبيخ وتقريع. وعن ابن مسعود والشعبي وسفيان ومجاهد: هو الأمن والصحة. وعن ابن عباس: البدن والحواس فيم استعملها. وعن ابن جبير: كل ما يتلذذ به. وفي الحديث: (بيت يكنك وخرقة تواريك وكسرة تشد قلبك وما سوى ذلك فهو نعيم).
(٥٠٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 501 502 503 504 505 506 507 508 509 510 511 ... » »»