تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٩٧
* (يوم ترجف الراجفة * تتبعها الرادفة) *، فلا يرد عليه بذلك، إذ قد أخذ الزلزال عاما باعتبار وقتيه. ففي الأول أخرجت كنوزها، وفي الثاني أخرجت موتاها، وصدقت أنها زلزلت زلزالها وأخرجت أثقالها. وقيل أثقالها كنوزها ومنه قوله * (تلقى * الارض) * أمثال الأسطوان من الذهب والفضة. وقال ابن عباس: موتاها، وهو إشارة إلى البعث وذلك عند النفخة الثانية، فهو زلزال يوم القيامة، لا الزلزال الذي هو من الأشراط.
* (الارض أثقالها وقال الإنسان ما لها) *: يعني معنى التعجب لما يرى من الهول، والظاهر عموم الإنسان. وقيل: ذلك الكافر لأنه يرى ما لم يقع في ظنه قط ولا صدقة، والمؤمن، وإن كان مؤمنا بالبعث، فإنه استهول المرأى. وفي الحديث: (ليس الخبر كالعيان). قال الجمهور: الإنسان هو الكافر يرى ما لم يظن. * (يومئذ) *: أي يوم إذ زلزلت وأخرجت تحدث، ويومئذ بدل من إذا، فيعمل فيه لفظ العامل في المبدل منه، أو المكرر على الخلاف في العامل في البدل. * (تحدث أخبارها) *: الظاهر أنه تحديث وكلام حقيقة بأن يخلق فيها حياة وإدراكا، فتشهد بما عمل عليها من صالح أو فاسد، وهو قول ابن مسعود والثوري وغيرهما. ويشهد له ما جاء في الحديث: (بأنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة)، وما جاء في الترمذي عنه صلى الله عليه وسلم) أنه قرأ هذه الآية ثم قال: (أتدرون ما أخبارها)؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: (إن أخبارها أن تشهد على كل عبد أو أمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا يوم كذا وكذا، قال فهذه أخبارها). هذا حديث حسن صحيح غريب.
قال الطبري: وقوم التحديث مجاز عن إحداث الله تعالى فيها الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتى ينظر من يقول ما لها إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت، ولم لفظت الأموات، وأن هذا ما كانت الأنبياء يندوا به ويحدثون عنه. وقال يحيى بن سلام: تحدث بما أخرجت من أثقالها، وهذا هو قول من زعم أن الزلزلة هي التي من أشراط الساعة. وفي سنن ابن ماجة حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة: يا رب هذا ما استودعتني). وعن ابن مسعود: تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها، فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك جوابا لهم عند سؤالهم. وتحدث هنا تتعدى إلى اثنين، والأول محذوف، أي تحدث الناس، وليست بمعنى اعلم المنقولة من علم المتعدية إلى اثنين فتتعدى إلى ثلاثة.
* (بأن ربك أوحى لها) *: أي بسبب إيحاء الله، فالباء متعلقة بتحدث. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى: يومئذ تحدث بتحديث أن ربك أوحى لها أخبارها، على أن تحديثها بأن ربك أوحى لها تحديث أخبارها، كما تقول: نصحتني كل نصيحة بأن نصحتني في الدين. انتهى، وهو كلام فيه عفش ينزه القرآن عنه. وقال أيضا: ويجوز أن يكون * (بأن ربك) * بدلا من * (أخبارها) *، كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا، انتهى.
وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلا الموافقة في الإعراب. فلا يجوز استغفرت الذنب العظيم، بنصب الذنب وجر العظيم لجواز أنك تقول من الذنب، ولا اخترت زيدا الرجال الكرام، بنصب الرجال وخفض الكرام. وكذلك لا يجوز أن تقول: استغفرت من الذنب العظيم، بجر الذنب ونصب العظيم، وكذلك في اخترت. فلو كان حرف الجر زائدا، جاز الاتباع على موضع الاسم بشروطه المحررة في علم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلا، لأن من زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ. ولا يجوز نصب رجل وجر عاقل على مراعاة جواز دخول من، وإن ورد شيء من ذلك فبابه الشعر. وعدى أوحى باللام لا بإلى، وإن كان المشهور تعديتها بإلى لمراعاة الفواصل. قال العجاج يصف الأرض:
* أوحى لها القرار فاستقرت * وشدها بالراسيات الثبت *
(٤٩٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 492 493 494 495 496 497 498 499 500 501 502 ... » »»