تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٥٣
يخشى * ويتجنبها الا شقى * الذى يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا يحيا * قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحيواة الدنيا * والا خرة خير وأبقى * إن هاذا لفى الصحف الا ولى * صحف إبراهيم وموسى) *)) ) * الغثاء، مخفف الثاء ومشددها: ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات والقماش، قال الشاعر:
* كأن طميا المجيمر غدوة * من السيل والغثاء فلك مغزل * ورواه الفراء: والإغثاء على الجمع، وهو غريب من حيث جمع فعال على أفعال. الحوة: سواد يضرب إلى الخضرة، قال ذو الرمة:
* لمياء في شفتيها حوة لعس * وفي اللثات وفي أنيابها شنب * وقيل: خضرة عليها سواد، والأحوى: الظبي الذي في ظهره خطان من سواد وبياض، قال الشاعر:
* وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن * مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد * وفي الصحاح: الحوة: سمرة، وقال الأعلم: لون يضرب إلى السواد، وقال أيضا: الشديد الخضرة التي تضرب إلى السواد.
* (سبح اسم ربك الاعلى * الذى خلق فسوى * والذى قدر فهدى * والذى أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى * سنقرئك فلا تنسى * إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى * ونيسرك لليسرى * فذكر إن نفعت الذكرى * سيذكر من يخشى * ويتجنبها الاشقى * الذى * يصلى النار الكبرى * ثم لا يموت فيها ولا * يحى * قد أفلح من تزكى * وذكر اسم ربه فصلى * بل تؤثرون الحيواة الدنيا * والاخرة * خير وأبقى * إن هاذا لفى الصحف الاولى * صحف إبراهيم وموسى) *.
هذه السورة مكية. ولما ذكر فيما قبلها * (فلينظر الإنسان مم خلق) *، كأن قائلا قال: من خلقه على هذا المثال؟ فقيل: * (سبح اسم ربك) *. وأيضا لما قال: * (إنه لقول فصل) *، قيل: هو * (سنقرئك) *، أي ذلك القول الفصل.
* (سبح) *: نزه عن النقائص، * (اسم ربك) *: الظاهر أن التنزيه يقع على الاسم، أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له رب أو إله، وإذا كان قد أمر بتنزيهه اللفظ أن يطلق على غيره فهو أبلغ، وتنزيه الذات أحرى. وقيل: الاسم هنا بمعنى المسمى. وقيل: معناه نزه اسم الله عن أن تذكره إلا وأنت خاشع. وقال ابن عباس: المعنى صل باسم ربك الأعلى، كما تقول: ابدأ باسم ربك، وحذف حرف الجر. وقيل: لما نزل * (فسبح باسم ربك العظيم) *، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم): (اجعلوها في ركوعكم). فلما نزل: * (سبح اسم ربك الاعلى) *، قال: (اجعلوها في سجودكم). وكانوا يقولون في الركوع: اللهم لك ركعت، وفي السجود: اللهم لك سجدت. قالوا: * (الاعلى) * يصح أن يكون صفة لربك، وأن يكون صفة لاسم فيكون منصوبا، وهذا الوجه لا يصح أن يعرب * (الذى خلق) * صفة لربك، فيكون في موضع جر لأنه قد حالت بينه وبين الموصوف صفة لغيره. لو قلت: رأيت غلام هند العاقل الحسنة، لم يجز؛ بل لا بد أن تأتي بصفة هند، ثم تأتي بصفة الغلام فتقول: رأيت غلام هند الحسنة العاقل. فإن لم يجعل الذي صفة لربك، بل ترفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أو تنصبه على المدح، جاز أن يكون الأعلى صفة لاسم.
* (الذى خلق) *: أي كل شيء، * (فسوى) *: أي لم يأت متفاوتا بل متناسبا على إحكام وإتقان، دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم. وقرأ الجمهور: * (قدر) * بشد الدال، فاحتمل أن يكون من القدر والقضاء، واحتمل أن يكون من التقدير والموازنة بين الأشياء. وقال الزمخشري: قدر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه وعرفه وجه الانتفاع به، انتهى. وقرأ الكسائي: قدر مخفف الدال من القدرة أو من التقدير والموازنة، وهدى عام لجميع الهدايات. وقال الفراء: فهدى وأضل، اكتفى بالواحدة عن الأخرى. وقال الكلبي ومقاتل: هدى الحيوان إلى وطء الذكور للإناث. وقال مجاهد: هدى الإنسان للخير والشر، والبهائم للمراتع. وقيل: هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي، وهذه الأقوال محمولة على التمثيل لا على التخصيص. والظاهر أن أحوى صفة لغثاء. قال ابن عباس: المعنى * (فجعله غثاء أحوى) *: أي أسود، لأن الغثاء إذا قدم وأصابته الأمطار اسود وتعفن فصار أحوى. وقيل: أحوى حال من المرعى، أي أحرى المرعى أحوى، أي للسواد من شدة خضرته ونضارته لكثرة ريه، وحسن تأخير أحوى لأجل الفواصل، وقال:
* وغيث من الوسمي حوتلاعه * تبطنته بشيظم صلتان * * (سنقرئك فلا تنسى) *، قال الحسن وقتادة ومالك: هذا في معنى * (لا تحرك به لسانك) *. وعده الله أن يقرئه، وأخبره أنه لا ينسى، وهذه آية للرسول صلى الله عليه وسلم) في أنه أمي، وحفظ الله عليه الوحي، وأمنه من نسائه. وقيل: هذا وعد بإقراء السور، وأمر أن لا ينسى على معنى التثبيت والتأكيد، وقد علم أن النسيان ليس في قدرته، فهو نهي عن إغفال التعاهد، وأثبتت الألف في * (فلا تنسى) *، وإن كان مجزوما بلا التي للنهي لتعديل رؤوس الآي.
* (إلا ما شاء الله) *، الظاهر أنه استثناء مقصود. قال الحسن وقتادة وغيرهما: مما قضى الله نسخه، وأن ترتفع تلاوته وحكمه. وقال ابن عباس: إلا ما شاء الله أن ينسيك لتسن به، على نحو قوله عليه الصلاة والسلام: (أني لأنسى وأنسى لأسن). وقيل: إلا ما شاء الله أن يغلبك النسيان عليه، ثم يذكرك به بعد، كما قال عليه الصلاة والسلام، حين سمع قراءة عباد بن بشير: (لقد ذكرني كذا وكذا آية في سورة كذا وكذا). وقيل: * (فلا تنسى) *: أي فلا تترك العمل به إلا ما شاء الله أن تتركه بنسخه إياه، فهذا في نسخ العمل. وقال الفراء وجماعة: هذا استثناء صلة في الكلام على سنة الله تعالى في الاستثناء، وليس ثم شيء أبيح
(٤٥٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 448 449 450 451 452 453 454 455 456 457 458 ... » »»