تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٤٥
أحكم منه في أولئك الذين قد علموا أنهم ماتوا على كفرهم. وأما قريش فكان فيهم وقت نزول الآية من تاب وآمن، انتهى. وكذلك قوله: * (إن الذين ءامنوا) *، المراد به العموم لا المطروحون في النار، والبطش: الأخذ بقوة. * (يبدىء ويعيد) *، قال ابن زيد والضحاك: يبدىء الخلق بالإنشاء، ويعيده بالحشر. وقال ابن عباس: عام في جميع الأشياء، أي كل ما يبدأ وكل ما يعاد. وقال الطبري: يبدىء العذاب ويعيده على الكفار؛ ونحوه عن ابن عباس قال: تأكلهم النار حتى يصيروا فحما، ثم يعيدهم خلقا جديدا. وقرئ: يبدأ من بدأ ثلاثيا، حكاه أبو زيد.
ولما ذكر شدة بطشه، ذكر كونه، غفورا ساترا لذنوب عباده، ودودا لطيفا بهم محسنا إليهم، وهاتان صفتا فعل. والظاهر أن الودود مبالغة في الواد؛ وعن ابن عباس: المتودد إلى عباده بالمغفرة. وحكى المبرد عن القاضي إسماعيل بن إسحاق أن الودود هو الذي لا ولد له، وأنشد:
* وأركب في الروع عريانة * ذلول الجماع لقاحا ودودا * أي: لا ولد لها تحن إليه. وقيل: الودود فعول بمعنى مفعول، كركوب وحلوب، أي يوده عباده الصالحون. * (ذو العرش) *: خص العرش بإضافة نفسه تشريفا للعرش وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات. وقرأ الجمهور: * (ذو) * بالواو؛ وابن عامر في رواية: ذي بالياء، صفة لربك. وقال القفال: * (ذو العرش) *: ذو الملك والسلطان. ويجوز أن يراد بالعرش: السرير العالي، ويكون خلق سريرا في سمائه في غاية العظمة، بحيث لا يعرف عظمته إلا هو ومن يطلعه عليه، انتهى. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد وابن وثاب والأعمش والمفضل عن عاصم والأخوان: * (المجيد) * بخفض الدال، صفة للعرش، ومجادته: عظمه وعلوه ومقداره وحسن صورته وتركيبه، فإنه قيل: العرش أحسن الأجسام صورة وتركيبا. ومن قرأ: ذي العرش بالياء، جاز أن يكون المجيد بالخفض صفة لذي، والأحسن جعل هذه المرفوعات أخبارا عن هو، فيكون * (فعال) * خبرا. ويجوز أن يكون * (الودود * ذو العرش) * صفتين للغفور، و * (فعال) * خبر مبتدأ وأتى بصيغة فعال لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة، والمعنى: أن كل ما تعلقت به إرادته فعله لا معترض عليه.
* (هل أتاك حديث الجنود) *: تقرير لحال الكفرة، أي قد أتاك حديثهم، وما جرى لهم مع أنبيائهم، وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم، فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم. والجنود: الجموع المعدة للقتال. * (فرعون وثمود) *: بدل من * (الجنود) *، وكأنه على حذف مضاف، أي جنود فرعون، واختصر ما جرى لهم إذ هم مذكورون في غير ما سورة من القرآن. وذكر ثمود لشهرة قصتهم في بلاد العرب وهي متقدمة، وذكر فرعون لشهرة قصته عند أهل الكتاب وعند العرب الجاهلية أيضا. ألا ترى إلى زهير بن أبي سلمى وقوله:
* ألم تر أن الله أهلك تبعا * وأهلك لقمان بن عاد وعاديا * * وأهلك ذا القرنين من قبل ما لوى * وفرعون جبارا طغى والنجاشيا * وكان فرعون من المتأخرين في الهلاك، فدل بقصته وقصة ثمود على أمثالهما من قصص الأمم المكذبين وهلاكهم. * (بل الذين كفروا) *: أي من قومك، * (فى تكذيب) *: حسدا لك، لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم. * (والله من ورائهم محيط) *: أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطا به، فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعا، والمعنى: دنو هلاكهم.
ولما ذكر أنهم في تكذيب، وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء لهم، وكان صلى الله عليه وسلم) قد كذبوه
(٤٤٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 440 441 442 443 444 445 446 447 448 449 450 ... » »»