تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٤٤٣
فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ملعونون. فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذب.
* (ذات البروج) *، قال ابن عباس والجمهور: هي المنازل التي عرفتها العرب، وهي اثنا عشر على ما قسمته، وهي التي تقطعها الشمس في سنة، والقمر في ثمانية وعشرين يوما. وقال عكرمة والحسن ومجاهد: هي القصور. وقال الحسن ومجاهد أيضا: هي النجوم. وقيل: عظام الكواكب، سميت بروجا لظهورها. وقيل: هي أبواب السماء؛ وقد تقدم ذكر البروج في سورة الحجر. * (واليوم الموعود) *: هو يوم القيامة، أي الموعود به. * (وشاهد ومشهود) *: هذان منكران، وينبغي حملهما على العموم لقوله: * (علمت نفس ما أحضرت) *، وإن كان اللفظ لا يقتضيه، لكن المعنى يقتضيه، إذ لا يقسم بنكرة ولا يدري من هي. فإذا لوحظ فيها معنى العموم، اندرج فيها المعرفة فحسن القسم. وكذا ينبغي أن يحمل ما جاء من هذا النوع نكرة، كقوله: * (والطور * وكتاب مسطور) *، ولأنه إذا حمل * (وكتاب مسطور) * على العموم دخل فيه معنيان: الكتب الإلهية، كالتوراة والإنجيل والقرآن، فيحسن إذ ذاك القسم به.
ولما ذكر واليوم الموعود، وهو يوم القيامة باتفاق، وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم)، ناسب أن يكون المقسم به من يشهد في ذلك اليوم ومن يشهد عليه. إن كان ذلك من الشهادة، وإن كان من الحضور، فالشاهد: الخلائق الحاضرون للحساب، والمشهود: اليوم، كما قال تعالى: * (ذالك يوم مجموع له الناس وذالك يوم مشهود) *، كان موعودا به فصار مشهودا، وقد اختلفت أقوال المفسرين في تعيينهما.
وعن ابن عباس: الشاهد: الله تعالى؛ وعنه وعن الحسن بن علي وعكرمة: الرسول صلى الله عليه وسلم)؛ وعن مجاهد وعكرمة وعطاء بن يسار: آدم عليه السلام وذريته؛ وعن ابن عباس أيضا والحسن: الشاهد يوم عرفة ويوم الجمعة، وفي كل قوم منها المشهود يوم القيامة؛ وعن علي وابن عباس وأبي هريرة والحسن وابن المسيب وقتادة: وشاهد يوم الجمعة؛ وعن ابن المسيب: يوم التروية؛ وعن علي أيضا: يوم القيامة؛ وعن النخعي: يوم الأضحى. ومشهود في هذه الأقوال يوم عرفة؛ وعن ابن عمر: يوم الجمعة، ومشهود يوم النحر؛ وعن جابر: يوم الجمعة، ومشهود الناس؛ وعن محمد بن كعب: ابن آدم، ومشهود الله تعالى؛ وعن ابن جبير: عكس هذا؛ وعن أبي مالك: عيسى، ومشهود أمته، وعن علي: يوم عرفة، ومشهود يوم النحر؛ وعن الترمذي: الحكيم الحفظة، ومشهود عليهم: الناس؛ وعن عبد العزيز بن يحيى: محمد صلى الله عليه وسلم)، ومشهود عليه أمته؛ وعنه: الأنبياء، ومشهود أممهم؛ وعن ابن جبير ومقاتل الجوارح يوم القيامة، ومشهود أصحابها. وقيل: هما يوم الاثنين ويوم الجمعة. وقيل: الملائكة المتعاقبون وقرآن الفجر. وقيل: النجم والليل والنهار. وقيل: الله والملائكة وأولو العلم، ومشهود به الوحدانية، و * (إن الدين عند الله الإسلام) *. وقيل: مخلوقاته تعالى، ومشهود به وحدانيته. وقيل: هما الحجر الأسود والحجج. وقيل: الليالي والأيام وبنو آدم. وقيل: الأنبياء ومحمد صلى الله عليه وسلم)؛ وهذه أقوال سبعة وعشرون لكل منها متمسك، وللصوفية أقوال غير هذه. والظاهر ما قلناه أولا، وجواب القسم قيل محذوف، فقيل: لتبعثن ونحوه. وقال الزمخشري: يدل عليه * (قتل أصحاب الاخدود) *. وقيل: الجواب مذكور فقيل: * (إن الذين فتنوا) *. وقال المبرد: * (إن بطش ربك لشديد) *. وقيل: قتل وهذا نختاره وحذفت اللام أي لقتل، وحسن حذفها كما حسن في قوله: * (والشمس وضحاها) *، ثم قال: * (قد أفلح من زكاها) *، أي لقد أفلح من زكاها، ويكون الجواب دليلا على لعنة الله على من فعل ذلك وطرده من رحمة الله، وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم، على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين. وإذا كان * (قتل) * جوابا للقسم، فهي جملة خبرية، وقيل: دعاء، فكون الجواب غيرها. وقرأ الحسن وابن مقسم بالتشديد، والجمهور بالتخفيف.
وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالا فوق العشرة، ولكل قول منها قصة طويلة كسلنا عن كتابتها في كتابنا هذا؛ ومضنها أن ناسا من الكفار خدوا أخدودا في الأرض وسجروه نارا وعرضوا المؤمنين عليها، فمن رجع عن دينه تركوه، ومن أصر على الإيمان أحرقوه؛ وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين. وقال الربيع وأبو العالية وابن إسحاق: بعث الله على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أو
(٤٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 438 439 440 441 442 443 444 445 446 447 448 ... » »»