تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ٢٨٠
(سقط: بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى، لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا) وروي أن قوما، منهم أبي بن كعب وخلاد بن النعمان، لما سمعوا قوله: * (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) *، قالوا: يا رسول الله، فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر؟ فنزلت هذه الآية، فقال قائل: فما عدة الحامل؟ فنزلت * (أولات * الاحمال) *. وقرأ الجمهور: * (يئسن) * فعلا ماضيا. وقرئ: بياءين مضارعا، ومعنى * (إن ارتبتم) * في أنها يئست أم لا، لأجل مكان ظهور الحمل، وإن كان انقطع دمها. وقيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس، أهو دم حيض أو استحاضة؟ وإذا كانت هذه عدة المرتاب بها، فغير المرتاب بها أولى بذلك. وقدر بعضهم مبلغ اليأس بستين سنة، وبعضهم بخمس وخمسين. وقيل: غالب سن يأس عشيرة المرأة. وقيل: أقصى عادة امرأة في العالم. وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة أطبق بها الدم، لا ندري أهو دم حيض أو دم علة. وقيل: * (إن ارتبتم) *: شككتم في حالهن وحكمهن فلم تدروا ما حكمهن، فالحكم أن عدتهن ثلاثة أشهر. واختار الطبري أن معنى * (إن ارتبتم) *: شككتم فلم تدروا ما الحكم، فقيل: * (إن ارتبتم) *: أي إن تيقنتم إياسهن، وهو من الأضداد. وقال الزجاج: المعنى إن ارتبتم في حيضها، وقد انقطع عنها الدم، وكانت مما يحيض مثلها. وقال مجاهد أيضا: * (إن ارتبتم) * هو للمخاطبين، أي إن لم تعلموا عدة الآيسة، * (واللائى لم يحضن) *، فالعدة هذه، فتلخص في قوله: * (إن ارتبتم) * قولان: أحدهما، أنه على ظاهر مفهوم اللغة فيه، وهو حصول الشك؛ والآخر، أن معناه التيقن للإياس؛ والقول الأول معناه: إن ارتبتم في دمها، أهو دم حيض أو دم علة؟ أو إن ارتبتم في علوق بحمل أم لا؛ أو إن ارتبتم: أي جهلتم عدتهن، أقوال. والظاهر أن قوله: * (واللائى لم يحضن) * يشمل من لم يحض لصغر، ومن لا يكون لها حيض البتة، وهو موجود في النساء، وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض. ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت به ولم تحض فقيل: هذه تعتد سنة. * (واللائى لم يحضن) * معطوف على * (واللائى يئسن) *، فإعرابه مبتدأ كإعراب * (واللائى يئسن) *، وقدروا خبره جملة من جنس خبر الأول، أي عدتهن ثلاثة أشهر، والأولى أن يقدر مثل أولئك أو كذلك، فيكون المقدر مفردا جملة. * (وأولات الاحمال) * عام في المطلقة وفي المتوفي عنها زوجها، وهو قول عمر وابن مسعود وأبي مسعود البدري وأبي هريرة وفقهاء الأمصار. وقال علي وابن عباس: * (وأولات الاحمال) * في المطلقات، وأما المتوفي عنها فعدتها أقصى الأجلين، فلو وضعت قبل أربعة أشهر وعشر صبرت إلى آخرها، والحجة عليها حديث سبيعة. وقال ابن مسعود: من شاء لاعنته، ما نزلت * (وأولات الاحمال) * إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها. وقرأ الجمهور: * (حملهن) * مفردا؛ والضحاك: أحمالهن جمعا.
* (ذلك أمر الله) *: يريد ما علم من حكم المعتدات. وقرأ الجمهور: * (ويعظم) * بالياء مضارع أعظم؛ والأعمش: نعظم بالنون، خروجا من الغيبة للتكلم؛ وابن مقسم: بالياء والتشديد مضارع عظم مشددا.
ولما كان الكلام في أمر المطلقات وأحكامهن من العدد وغيرها، وكن لا يطلقهن أزواجهن إلا عن بغض لهن وكراهة، جاء عقيب بعض الجمل الأمر بالتقوى من حيث المعنى، مبرزا في صورة شرط وجزاء في قوله: * (ومن يتق الله) *، إذ الزوج المطلق قد ينسب إلى مطلقته بعض ما يشينها به وينفر الخطاب عنها، ويوهم أنه إنما فارقها لأمر ظهر له منها، فلذلك تكرر قوله: * (ومن يتق الله) * في العمل بما أنزله من هذه الأحكام، وحافظ على الحقوق الواجبة عليه من ترك الضرار والنفقة على المعتدات وغير ذلك مما يلزمه، يرتب له تكفير السيئات وإعظام الأجر. ومن في * (من حيث سكنتم) * للتبعيض: أي بعض مكان سكناكم. وقال قتادة: إن لم يكن له إلا بيت واحد أسكنها في بعض جوانبه، قاله الزمخشري. وقال الحوفي: من لابتداء الغاية، وكذا قال أبو البقاء. و * (من وجدكم) *. قال الزمخشري: فإن قلت: فقوله: * (من وجدكم) *. قلت: هو عطف بيان، كقوله: * (من حيث سكنتم) *
(٢٨٠)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 275 276 277 278 279 280 281 282 283 284 285 ... » »»