تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٤٩
هم قوم طاغون) *: أي مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق. وقرأ مجاهد: بل هم، مكان: * (أم هم) *، وكون الأحلام آمرة مجازا لما أدت إلى ذلك، جعلت آمرة كقوله: * (هاذا أتنهانا أن نعبد ما يعبد ءاباؤنا) *. وحكى الثعلبي عن الخليل أنه قال: كل ما في سورة والطور من أم فاستفهام وليس بعطف. تقوله: اختلقه من قبل نفسه، كما قال: * (ولو تقول علينا بعض الاقاويل) *. وقال ابن عطية: تقوله معناه: قال عن الغير أنه قاله، فهو عبارة عن كذب مخصوص. انتهى. * (بل لا يؤمنون) *: أي لكفرهم وعنادهم، ثم عجزهم بقوله تعالى: * (فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين) *: أي مماثل للقرآن في نظمه ورصفه من البلاغة، وصحة المعاني والأخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات، والحكم إن كانوا صادقين في أنه تقوله، فليقولوا هم مثله، إذ هو واحد منهم، فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقول. فقرأ الجحدري وأبو السمال: * (بحديث مثله) *، على الإضافة: أي بحديث رجل مثل الرسول في كونه أميا لم يصحب أهل العلم ولا رحل عن بلده، أو مثله في كونه واحدا منهم، فلا يجوز أن يكون مثله في العرب فصاحة، فليأت بمثل ما أتى به، ولن يقدر على ذلك أبدا.
* (أم خلقوا من غير شىء) *: أي من غير شيء حي كالجماد، فهم لا يؤمرون ولا ينهون، كما هي الجمادات عليه، قاله الطبري. وقيل: * (من غير شىء) *: أي من غير علة ولا لغاية عقاب وثواب، فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرعون، وهذا كما تقول: فعلت كذا وكذا من غير علة: أي لغير علة، فمن للسبب، وفي القول الأول لابتداء الغاية. وقال الزمخشري: * (أم خلقوا) *: أم أحدثوا؟ وقدروا التقدير الذي عليه فطرتهم؛ * (من غير شىء) *: من غير مقدر، أم هم الذين خلقوا أنفسهم حيث لا يعبدون الخالق؟ * (بل لا يوقنون) *: أي إذا سئلوا: من خلقكم وخلق السماوات والأرض؟ قالوا: الله، وهم شاكون فيما يقولون لا يوقنون. أم خلقوا من غير رب ولا خالق؟ أي أم أحدثوا وبرزوا للوجود من غير إله يبرزهم وينشئهم؟ * (أم هم الخالقون) * لأنفسهم، فلا يعبدون الله، ولا يأتمرون بأوامره، ولا ينتهون عن مناهيه. والقسمان باطلان، وهم يعترفون بذلك، فدل على بطلانهم. وقال ابن عطية: ثم وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم، أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون؟ ثم خصص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات، ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين.
* (أم عندهم خزائن ربك) *، قال الزمخشري: خزائن الرزق، حتى يرزقوا النبوة من شاءوا، أو: أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة؟ * (أم هم المسيطرون) *: الأرباب الغالبون حتى يدبرون أمر الربوبية ويبنوا الأمور على إرادتهم. وقال ابن عطية: أم عندهم الاستغناء عن الله تعالى في جميع الأمور، لأن المال والصحة والقوة وغير ذلك من الأشياء كلها من خزائن الله تعالى. وقال الزهراوي: وقيل يريد بالخزائن: العلم، وهذا قول حسن إذا تؤمل وبسط. وقال الرماني: خزائنه تعالى: مقدوراته. انتهى. والمسيطر، قال ابن عباس: المسلط القاهر. وقرأ الجمهور: المصيطرون بالصاد؛ وهشام وقنبل وحفص: بخلاف عنه بالسين، وهو الأصل؛ ومن أبدلها صادا، فلأجل حرف الاستعلاء وهو الطاء، وأشم خلق عن حمزة، وخلاد عنه بخلاف عنه الزاي.
* (أم لهم سلم) * منصوب إلى السماء، * (يستمعون فيه) *: أي عليه أو منه، إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض، وقدره الزمخشري: صاعدين فيه، ومفعول يستمعون محذوف تقديره: الخبر بصحة ما يدعونه، وقدره الزمخشري: ما يوحى إلى الملائكة من علم الغيب حتى يعلموا ما هو كائن من تقدم هلاكه على هلاكهم وظفرهم في العاقبة دونه كما يزعمون. * (بسلطان مبين) *: أي بحجة واضحة بصدق استماعهم مستمعهم، * (أم تسئلهم أجرا) * على الإيمان بالله وتوحيده واتباع شرعه، * (فهم) * من ذلك المغرم الثقيل اللام * (مثقلون) *، فاقتضى زهدهم في اتباعك.
* (أم عندهم الغيب) *: أي اللوح المحفوظ، * (فهم يكتبون) *: أي يثبتون ذلك للناس شرع، وذلك عبادة الأوثان وتسييب
(١٤٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 144 145 146 147 148 149 150 151 152 153 154 ... » »»