تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٨ - الصفحة ١٣٥
* إذا هي قامت حاسرا مشمعلة * يحسب الفؤاد رأسها ما تقنع * فقدم رأسها على ما تقنع، وهو منفي بما، وجوزوا أن تكون ما مصدرية في موضع رفع بقليلا، أي كانوا قليلا هجوعهم، وهو إعراب سهل حسن، وأن تكون ما موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف تقديره: * (كانوا قليلا من اليل) * من الوقت الذي يهجعون فيه، وفيه تكلف. ومن الليل يدل على أنهم مشغولون بالعبادة في أوقات الراحات، وسكون الأنفس من مشاق النهار. * (وبالاسحار هم يستغفرون) *، فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار، فيأخدون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير وكأنهم أجرموا في تلك الليالي، والأسحار مظنة الاستغفار. وقال ابن عمرو الضحاك: يستغفرون: يصلون. وقال الحسن: يدعون في طلب المغفرة، والظاهر أن قيام الليل وهذا الحق في المال هو من المندوبات، وأكثر ما تقع زيادة الثواب بفعل المندوب. وقال القاضي منذر بن سعيد: هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وضعف بأن السورة مكية، وفرض الزكاة بالمدينة. وقيل: كان فرضا، ثم نسخ وضعف بأنه تعالى لم يشرع شيئا بمكة قبل الهجرة من أخد الأموال. والسائل: الذي يستعطي، والمحروم: لغة الممنوع من الشيء، قال علقمة:
* ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمة * أنى توجه والمحروم محروم * وأما في الآية، فالذي يحسب غنيا فيحرم الصدقة لتعففه. وقيل: الذي تبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان. وقال ابن عباس: المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم مال. وقال زيد بن أسلم: هو الذي أجيحت ثمرته. وقيل: الذي ماتت ماشيته. وقال عمر بن عبد العزيز: هو الكلب. وقيل: الذي لا ينمي له مال. وقيل: المحارف الذي لا يكاد يكسب. وقيل غير ذلك، وكل هذه الأقوال على سبيل التمثيل لا التعيين، ويجمعها أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه.
* (وفى الارض ءايات) * تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها، وفيها الفجاج للسلاك، وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر، وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة، وتلقح بأنواع النبات، وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال. وقرأ قتادة: آية على الإفراد، * (للموقنين) *: وهم الذين نظروا النظر الصحيح، وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت به الرسل، فأيقنوا لم يدخلهم ريب. * (وفى أنفسكم) * حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال، وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس، وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغريب الصنائع، وغير ذلك مما لا ينحصر.
* (وفى السماء رزقكم) *، قال الضحاك ومجاهد وابن جبير: المطر والثلج، لأنه سبب الأقوات، وكل عين دائمة من الثلج. وقال مجاهد أيض وواصل الأحدب: أراد القضاء والقدر، أي الرزق عند الله يأتي به كيف شاء، * (وما توعدون) *: الجنة، أو هي النار، أو أمر الساعة، أو من خير وشر، أو من ثواب وعقاب، أقوال المراد بها التمثيل لا التعيين. وقرأ ابن محيصن: أرزاقكم على الجمع، والضمير في إنه عائد على القرآن، أو إلى الدين الذي في قوله: * (وإن الدين لواقع) *، أو إلى اليوم المذكور في قوله: * (أيان يوم الدين) *، أو إلى الرزق، أو إلى الله، أو إلى النبي صلى الله عليه وسلم)، أقوال منقولة. والذي يظهر أنه عائد على الإخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء، وكونهم في * (قول مختلف) *، و * (قتل
(١٣٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 130 131 132 133 134 135 136 137 138 139 140 ... » »»