تفسير البحر المحيط - أبي حيان الأندلسي - ج ٧ - الصفحة ٩٦
قدرها واستحقاقها، بمعنى: أن الله تعالى تفضل عليه فوق ما تستحق حسنته. قال ابن زيد: يعطى بالواحدة عشرا، والداعية إلى هذا التقدير أن الحسنة لا يتصور بينها وبين الثواب تفضيل. انتهى. وقيل: ثواب المعرفة الحاصلة في الدنيا هي المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النظر إلى وجهه الكريم. وقد دلت الدلائل على أن أشرف السعادات هي هذه اللذة، ولو لم تحمل الآية على ذلك، لزم أن يكون الأكل والشرب خيرا من معرفة الله تعالى، وذلك لا يكون.
وقرأ الكوفيون: * (من فزع) *، بالتنوين، * (ويومئذ) *، منصوب على الظرف معمول لقوله: * (ءامنون) *، أو لفزع. ويدل على أنه معمول له قراءة من أضافه إليه، أو في موضع الصفة لفزع، أي كائن في ذلك الوقت. وقرأ باقي السبعة: بإضافة فزع إلى يومئذ؛ فكسر الميم العربيان، وابن كثير، وإسماعيل بن جعفر، عن نافع، وفتحها، بناء لإضافته إلى غير متمكن؛ نافع، في غير رواية إسماعيل. والتنوين في يومئذ تنوين العوض، حذفت الجملة وعوض منها، والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف، أي يوم، إذ جاء بالحسنة، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ترى الجبال، ويجوز أن يكون التقدير: يوم إذ ينفخ في الصور، ولا سيما إذا فسر بأنه نفخ القيام من القبور للحساب، ويكون الفزع إذ ذاك واحدا. وقال أبو علي ما معناه: من فزع، بالتنوين، أو بالإضافة، ويجوز أن يراد به فزع واحد، وأن يراد به الكثرة، لأنه مصدر. فإن أريد لكثرة، شمل كل فزع يكون في القيامة، وإن أريد الواحد، فهو الذي أشير إليه بقوله: * (لا يحزنهم الفزع الاكبر) *.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما الفرق بين الفزعين؟ قلت: الفزع الأول: ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدة يقع، وهو يفجأ من رعب وهيبة، وإن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به. والثاني: الخوف من العذاب. انتهى. والسيئة: الكفر والمعاصي ممن حتم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار. وخصت الوجوه، إذ كانت أشرف الأعضاء، ويلزم من كبها في النار كب الجميع، أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان، كما يعبر عنها بالرأس والرقبة، كما قال: * (فكبكبوا فيها) *، فكأنه قيل: فكبوا في النار. والظاهر من كبت، أنهم يلقون في النار منكوسين، قاله أبو العالية، أعلاهم قبل أسفلهم. ويجوز أن يكون ذلك كناية عن طرحهم في النار، قاله الضحاك. * (هل تجزون) *: خطاب لهم على إضمار القول، أي يقال لهم وقت الكب: هل تجزون.
ثم أمر تعالى نبيه أن يقول: * (إنما أمرت) *، والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل، أو دليل العقل على وحدانية الله تعالى. * (أن أعبد) *: أي أفرده بالعبادة، ولا أتخذ معه شريكا، كما فعلت قريش، وهذه إشارة تعظيم كقوله: * (وهاذا كتاب أنزلناه) *، هذا ذكر من معي من حيث هي موطن نبيه ومهبط وحيه. والبلدة: مكة، وأسند التحريم إليه تشريفا لها واختصاصا، ولا تعارض بين قوله: * (الذى حرمها) *، وقوله عليه السلام: (إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة)، لأن إسناد ذلك إلى الله من حيث كان بقضائه وسابق علمه، وإسناده إلى إبراهيم من حيث كان ظهور ذلك بدعائه ورغبته وتبليغه لأمته. وفي قوله: * (حرمها) *، تنبيه بنعمته على قريش، إذ جعل بلدتهم آمنة من الغارات والفتن التي تكون في بلاد العرب، وأهلك من أرادها بسوء. وقرأ الجمهور: الذي: صفة للرب. وقرأ ابن مسعود، وابن عباس: التي حرمها: صفة للبلدة، ولما أخبر أنه مالك هذه البلدة، أخبر أنه يملك كل شيء فقال: * (وله كل شىء) *، أي جميع الأشياء داخلة في ربوبيته، فشرفت البلدة بذكر اندراجها تحت ربوبيته على جهة الخصوص، وعلى جهة العموم. * (وأمرت أن أكون من المسلمين) *: أي من المستسلمين المنقادين لأمر الله، فاعبده كما أمرني، أو من الحنفاء الثابتين على ملة الإسلام المشار إليهم في قوله: * (هو سماكم المسلمين) *، * (وأن أتلو القرءان) *، إما من التلاوة، أي: وأن أتلو عليكم القرآن، وهذا الظاهر، إذ بعده التقسيم المناسب للتلاوة، وإما من المتلو، أي: وأن أتبع القرآن، كقوله: * (واتبع ما يوحى إليك) *. وقرأ الجمهور: وأن أتلو. وقرأ عبد الله: وأن أتل، بغير واو، أمرا من تلا، فجاز أن تكون أن مصدرية وصلت بالأمر، وجاز أن تكون مفسرة على إضمار: وأمرت أن أتل، أي أتل. وقرأ أبي: واتل هذا القرآن، جعله أمرا دون أن. * (فمن اهتدى) *، به ووحد الله وآمن بنبيه بما جاء به، فثمرة هدايته مختصة به. * (ومن ضل) *، فوبال إضلاله مختص به، وحذف جواب من ضل لدلالة
(٩٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 94 95 96 97 98 99 100 101 ... » »»